يقول فكتور هيجو أن السياسي الذي اشتغل في السياسة أربعين عاما ولم يغير مواقفه وآراءه السياسية هو كالماء الراكد. وطبعا كان يقصد التحول الايجابي، أي استيعاب متغيرات الواقع والتأمل في ذلك والتكيف معه، أنكان التحول ايجابيا. ولينين هو من قال أن التكتيك الشيوعي يجب أن يتغير مع تغيرات الواقع الملموس، والحياة هي أغنى من النظريات والمواقف السياسية. والى هنا والحديث هو عن تحولات سياسية وفكرية لدى الساسة، وطبعا ليس القصد تحولات لأسباب المنفعة والدوافع الانتهازية ، كما نرى مثلاًنماذج في الانتخابات العراقية، وما يعقبها ، من انحياز فوري لجهة الفائزين. وهنا أتوقف لدى موقف أديب لم يعمل في السياسة، وقد تحول رأسا على عقب وبلا سابق تمهيد. انه السيد قطب ، فقيه الإسلام السياسي الدموي، وأتوقف لدى تجربته لأنه كان لي معه عام 1945 لقاءات أدبية في حلوان المصرية . فتحوله إشكالية خاصة ومفاجئة.

عام 1945 وأنا في أخر عام من سنوات كلية دار المعلمين العالية في بغداد (كلية الآداب) حملت معي الى مصر مخطوطة لي عاطفية عن غرامي بإحدىالطالبات ، وقد مزجت فيها الواقع بالخيال فجاءت أشبه بالقصة . وكانت انوي اللقاء بسيد قطب ، الذي كان من ابرز نقاد الأدب ، وهو ومحمد مندور بوجه خاص وقد حدد لي موعداً في مدينته حلوان ، ولما ذهبت وجدته بانتظاري مع أخيه محمد قطب وآخرين، واستقبلوني بترحاب شديد. وضعت بين يديه المخطوطة ورجوته السعي لطبعها مع مقدمة منه أن كان ذلك ممكناً. فوعد خيراً. وحدد موعداً أخر بعد أسبوع. وفي اللقاء الثاني قال أنالمخطوطة أعجبته ولكنه يرى أن أسلوبي مباشر جداً والأفضل تغيير أسلوبكتاباتي، وضرب مثلاً عن أشعار له في الحب وكيف حولها الى مشروع قصة. ودعته وعدت الى الفندق وشرعت فوراً بتلخيص مخطوطة وأسلوب جديد واذكر أنني بدأت الكتابة هكذا : ( وأخيرا، مزقتها ثائراً وأحرقتها حرقا بعود ثقاب). وفي البريد أرسلت تلك القطعة الى السيد قطب ووضعت لها عنوان (سبيلك الجديد ..... أهذه قصة ؟) .. عدت للعراق واندمجت في العمل السياسي اليساري وصرت أتوهم ان الغراميات لا تنسجم مع النضال ، فأرسلت رسالة الى دار النشر المصرية طالبا عدم نشر المسودة . وبعد بضعة أسابيع وجدت القطعة الأدبية التي أرسلتها لقطب بالبريد منشورة في مجلة ( الرسالة ).وقال لي أديب من كلية الحقوق انه قرأها ولم يفهم شيئاً......

سيد قطب كان محافظا باعتدال وكان منفتحاً على كل جديد في الأدب، ويشجع الأدباء الشباب. حتى ممن كانت لهم اتجاهات اشتراكية ، فمثلا أشاد برواية (مليم الأكبر) ذات النزعة اليسارية. وشجع نجيب محفوظ منذ صدور رواياته الأولى مع انه سرعان ما تحول الى هدف الإسلاميين الذين أفتوا بقتله. وحين اندلعت سجالات بين العقاد ومصطفى الرافعي ، وقف مع العقاد العلماني المنفتح في وجه الرافعي المحافظ. إذن فان كل شيء لم يكن يدل على انه سيتحول فجأة الى فقيه الإسلام السياسي الدموي منذ عام 1948 وقد شارك الفقيه الهندي (المودودي) في نظرية (حاكمية الله) التي تدعو الى عودة دولة الخلافة الإسلامية وحكم الإخوان المسلمين نيابة عن الله. وصار يكفر كل المسيحيين ويدعو الى قتال كل غربي أينما كان . وجدير بالذكر ان خامنئي ترجم كتباً لسيد قطب بعد تحولاته، وكان ذلك قبل انتصار الخمينية. وقد استلهم خميني من نظرية (حاكمية الله) فجاء بنظرية (حاكميةالإمام الغائب) ومن ينوب عنه وهو الفقيه المرشد. ان حركة الإخوان هي أمجميع أشكال ودرجات الإسلام السياسي ، وصولاً الى داعش. وقيل في حينه ان بريطانيا هي من شجع تلك الحركة في الثلاثينيات للتصدي لكل معارضة مصرية ديمقراطية وضد الملكية . و الملاحظ ان بريطانيا ظلت وحتى سنوات أخيرة تتساهل مع النشاط الاخواني .. هذا والموضوع يتسع للمزيد.