في أحد المقابلات الصحفية، وصف ناشط سياسي عربي الحكم في بلده: "بأنه نظام تفتقد فيه الانتخابات النيابية الحرية والشفافية، وتنتج مجلسا نيابيا من لون واحد. كما تضيق فيه حرية الصحافة ومساحة العمل السياسي والحقوقي، ويستخدم فيه القضاء للتنكيل بالمعارضين والخصوم، ويكرس في الدستور وجود حكم غير مقيد بفترة زمنية ولا يخضع لرقابة البرلمان او السلطة القضائية. وفي مثل هذا النظام يصبح حتى الحزب الحاكم مجرد جهاز اداري يقوم عليه موظفون بلا مشروع ولا صدقية.

هذا النموذج من الحكم يطلق عليه نموذج "دولة الثقب الأسود"، في إشارة للظاهرة الفلكية المعروفة لنجوم منطفئة تتكور على نفسها وتتحول الى حقل جاذبية جبار لا يستطيع حتى الضوء أن يفلت من إساره. الدول العربية الحديثة تقترب من هذا النموذج الى حد كبير، حيث يشكل الجهاز التنفيذي "ثقبا أسود" يحول المجال الاجتماعي المحيط به الى ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء. وعلى غرار "الثقب الفلكي الأسود"، فإن هذا الجهاز بدوره يتكور على نفسه ويضيق حتى يصبح في حجم رأس الإبرة، ويتداعى بالتالي الفضاء المحدود المتاح للحركة حوله حتى يتلاشى تماما. 

هذه المركزية المتزايدة في الجهاز التنفيذي نجدها مضمنة في النصوص الدستورية لأغلب الدول العربية إن لم يكن جميعها، التي تكرس حق الملك أو الرئيس أو الأمير في التشريع، وتمنح رأس الدولة صلاحيات واسعة باعتباره الرئيس الأعلى للجهاز التنفيذي ولمجلس الوزراء، وللقوات المسلحة والقضاء والخدمة العامة. وهو الذي يعين الوزراء والقضاة وكبار المسؤولين والضباط ويملك صلاحية عزلهم، وهو الذي يدعو البرلمان للانعقاد ويملك صلاحية حله. 

وتكرس القوانين كذلك الهيمنة المركزية على السلطات المحلية، حيث يقوم "رأس الدولة" بتعيين المحافظين والولاة، ويكون هؤلاء مسؤولين أمامه وليس أمام المواطنين، وتتعقد الأوضاع أكثر في وجود أقليات عرقية ودينية تعاني من المركزية السياسية والإدارية التي تعوق تعبيرها عن ذاتها. وتظهر مركزية الجهاز التنفيذي كذلك في توسع الجهاز البيروقراطي، وزيادة تدخل الدولة في الاقتصاد، وتعاظم نصيب الانفاق الحكومي من الناتج القومي، وخاصة الانفاق على الأجهزة الأمنية والعسكرية. ومن اللافت ان هذا الاتجاه يسود في الدول الراديكالية التي انتهجت سياسة الاقتصاد الموجه وتلك المحافظة التي اعلنت منذ البداية تمسكها باقتصاد السوق في آن واحد.

إضافة الى ذلك، فإن الجهاز التنفيذي يستخدم القضاء العادي والاستثنائي لإقصاء وتحجيم الخصوم والمنافسين وحتى بعض الأتباع المتمردين، ويقترن هذا بما يسمى "الفساد المسكوت عنه"، حيث يسمح للأنصار المقربين باستغلال مناصبهم للإثراء غير المشروع، في حين يظل تطبيق القانون عليهم سلاحا مشهرا لضمان استمرار ولائهم الكامل والمطلق. وتعد أجهزة المخابرات لب الجهاز الحاكم في كل الدول العربية تقريبا، وتخضع مباشرة لهيمنة رأس الدولة، وتتمتع بصلاحيات تفوق صلاحيات أي جهاز آخر. ويمتلك الجهاز الأمني موارد هائلة، ويتدخل في جميع صلاحيات الجهاز التنفيذي خاصة فيما يتعلق بقرارات التوظيف وتقنين الجمعيات الأهلية وغيرها.

ولكن كثيرا من الحكومات لا تكتفي بهذه الصلاحيات الدستورية والادارية الواسعة، حيث تستعين بقوانين الطوارئ التي ظلت سارية في بعض الدول لأكثر من نصف قرن، بينما نجد بعض الدول التي ظلت تحكم من دون دستور منذ نشأتها، وعندما قررت سن قوانين أساسية فإنها لم تكرس فقط السلطات المطلقة التي كان الحاكم يتمتع بها في غياب حكم القانون، بل اضافت له سلطات لم تكن له في العرف السائد من قبل، وهي صلاحيات لم يكن الحاكم يتمتع بها منفردا من قبل. وهناك آليات إضافية تتيح للحاكم مزيدا من تركيز السلطات في يده، فعلى سبيل المثال ان ما يسمى الأحزاب الحاكمة ما هي في الواقع سوى مؤسسات تابعة للجهاز التنفيذي، حيث يتم تعيين المسؤولين الحزبيين من قبل الرئيس الذي يعد في الوقت نفسه رئيس الحزبفي اغلب الدول، وهذا يعني عمليا ان البرلمان يصبح جهازا بيروقراطيا يعينه الجهاز التنفيذي ولا يمثل الشعب بحق فتضعف الثقة به. 

ولئن تفاوتت الدول العربية في تجسيدها هذه الملامح العامة وخاصة في هامش الحريات الذي تسمح به من دون ان تعد تهديدا، فإن القاسم المشترك بين الأنظمة هو تركيز السلطات في قمة هرم الجهاز التنفيذي والتأكد من ان هامش الحريات المتاح – الذي يمكن تضييقه بسرعة عند اللزوم – لا يؤثر في القبضة الصارمة على السلطة.

المصدر: نحو الحرية في الوطن العربي. "مقتطفات من تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004م".