ترك ماريانو راخوي، رئيس الوزراء الإسباني السابق، منصبه بمحض إرادته .كان بإمكانه أن يؤخر عملية انتقال السلطة باللجوء إلى مناورات سياسية وحيل قانونية ، لكن الرجل أدرك أن زمنه السياسي قد انتهى ففضل الرحيل في الوقت المناسب مرفوع الرأس ، ملقيا اللوم على أعضاء حزبه ، من لطخوا سمعة التنظيم وزعيمه لتورطهم في فضائح فساد، اقترفوها فاستحقوا عليها أحكاما قاسية فيما عرف ب "قضية غورتيل" الرمز الدال على شبكة متشعبة لتبييض الأموال ، لتمويل الحزب خارج القانون وبعيدا عن الشفافية .

وكما في الديمقراطيات الغربية ، فإن التداول على السلطة هو المبدأ الحاكم ؛ فإن غادر حزب الحكم اليوم ، فإنه يبدأ الاستعداد في اليوم الموالي لاستعادته ، بمراجعة سياساته وضبط خططه التنظيمية إضافة إلى تجديد أساليب استقطاب الأنصار للتصويت لصالحه في المواجهات الانتخابية المقبلة .

ولن يقود الزعيم راخوي العملية ، فقد أعلن أولا تخليه عن السياسة والاكتفاء بالعضوية العادية في الحزب ،وفي المرحلة الثانية قرر التخلي يوم الجمعة عن مقعده في مجلس النواب الذي فاز به من دون انقطاع منذ عام 1989 ،لأن استمراره يفرض عليه تزعم المعارضة في المجلس ؛ وذاك ما لا يرضاه لنفسه ويتعارض مع نهجه السياسي؛ مبررا خطوته بأنها الأفضل له شخصيا وللحزب.

وتجنبا لانتقادات محتملة على تفضيله لمرشح دون أخر لخلافته ،رفض راخوي التدخل في عملية اختيار خليفته بعد تركه القيادة ، مصرحا انه لا يفاضل بين المرشحين المحتملين الذين أوصاهم بالتنافس الشريف فلكل منتسب المكان الذي يليق به في صفوف التنظيم، مشددا على أن المرحلة تقتضي قيادة جديدة.

حقق راخوي خلال السنوات السبع التي قضاها في قصر" لا منكلوا " وحوالي 15 سنة زعيما للحزب الكثير مما التزم به في برنامجه الانتخابي عام 2011 الذي مكنه من الفوز في الانتخابات التشريعية بأغلبية مطلقة ضد مرشح الحزب الاشتراكي ، الفريدو روبالكابا . الذي استلم السفينة الغارقة من سلفه الاشتراكي خوصي لويس ثباتيرو .

أوقف راخوي ، بسن إجراءات تقشفية صارمة ،انحدار إسبانيا نحو الهاوية المالية، متحملا جراء ذلك نقدا لاذعا من خصومه السياسيين والنقابيين ،لم تحمه من مدافعهم العنيفة سوى أغلبيته المريحة في البرلمان الإسباني أثناء الولاية التشريعية الأولى (2011 / 2015) وكذا تواتر النتائج الاقتصادية الإيجابية.

بدأت مؤشرات تراجع شعبية الحزب تظهر في الانتخابات الموالية ، متزامنة مع الكشف عن قضايا فساد مالي وسياسي ، تورط فيها مسؤولون ومنتخبون في الحزب الشعبي؛كما مهدت تداعيات الأزمة الاقتصادية وتدابير التقشف الشديد ؛الأجواء لبروز قوى معارضة جديدة بين الشباب الغاضب وقد عانى من تبعات الأزمة ، وانسداد الأفق أمامه.

طالب الشباب الغاضب بتجديد البنيات السياسية عبر التظاهر والاعتصام في الميادين العامة ، مقلدا الربيع العربي ، فتبلور عن " الحراك" تنظيمان فتيان سيقتطعان فيما بعد من شعبية الحزبين الكبيرين : الشعبي والاشتراكي . ذلك ما أكدته نتائج انتخابات 2015 بإنهائها نظام القطبية الحزبية ، ليصبح في المشهد أربعة فاعلين: اثنان جديدان :بوديموس وثيودادانوس ، تقاسما دور إضعاف الحزبين المهيمنين منذ إقرار دستور 1978.

وجد راخوي نفسه في مواجهة معارضة بعدة أوجه ، تتهمه وحزبه بالجمود السياسي وغياب الرؤية الإستراتيجية الكفيلة بتحقيق إقلاع شامل تنشده الفئات الاجتماعية في إسبانيا المتجددة ، كما حملته مسؤولية تأزم الأوضاع ف كاتالونيا .

والحقيقة أن ما أضعف زعيم الحزب الشعبي ، ليس قوة المعارضة ، بأطيافها الليبرالية والاشتراكية واليسارية الشعبوية ؛وإنما سوء سلوكيات مسؤولين في حزبه، ما أدى إلى تفاقم الوضع مع اندلاع الأزمة السياسية في منطقة كاتالونيا وتهديدها لوحدة المملكة الإسبانية .

واجهت البلاد لأول مرة أزمة حكومية في أعقاب انتخابات ديسمبر 2015 التي لم تمنح الأغلبية لأي من الحزبين التاريخيين ، لذا تقرر إعادة الاقتراع بعد ستة أشهر ، ليسفر عن نفس المشهد تقريبا، واضعا البلاد أمام خيارين : إعادة الانتخابات للمرة الثالثة أو تشكيل حكومة أقلية من الحزب الشعبي التي ستنال سندا مشروطا من الاشتراكيين وثيودادانوس، معولة على دعمهما بخصوص الإجراءات الدستورية لمنع انفصال إقليم كاتالونيا.

عاشت حكومة الأقلية من دون صعوبات كبيرة ، حتى زلزلت أحكام " غورتيل " عمارة الحزب الشعبي. نزلت كالصاعقة من حيث شدتها وكشفها عن مدى تشعب الفساد بخصوص كيفية تدبير الحزب ، فقضت بالتالي على كل الآمال في استمرار راخوي رئيسا للحكومة والحزب .

صحيح أن الإدانة القضائية شملت أفرادا ، لكن المحكمة وجهت لراخوي صفعة معنوية بالتشكيك في صدقية شهادة أدلى بها أثناء سير التحقيق مع المتهمين الذي دام سنوات .

الآن وقد غادر حلبة السياسة وقبة البرلمان ، يتمنى راخوي استعادة حزبه لقواه المنهارة ، بدءا من الخريف ، ليعاود طريق العودة إلى قصر"لا منكلوا " بزعيم جديد ، سيتم انتخابه يوم الخامس من الشهر المقبل.

لا احد يدري كيف ستمر أطوار السباق بين المتنافسين ، وضمنهم سيدتان عملتا إلى جانب راخوي في الحزب ورئاسة الحكومة ، فيما انفتحت شهية عدد اكبر من رجالات الحزب.

إسبانيا محكومة في الوقت الراهن ، بحكومة اشتراكية ذات لون حزبي واحد .هي قوية نسبيا على مستوى الكفاءات والخبرات والتوجه المعتدل وقبولها أوروبيا ، لكنها واجهت مشكلا جديا حين حامت الشبهات حول وزير الثقافة الذي استقال ، كما أثير ملف قضائي لوزير الزراعة ، اتضح أنه أخف فاحتفظ بمنصبه .

لا تتمتع الحكومة بأغلبية برلمانية مستقرة ، ما يترك الباب مشرعا على احتمالات شتى ، ضمنها إجراء انتخابات سابقة لأوانها على الرغم من أن حزب "بوديموس" لمح أخيرا إلى استمرار تأييد الاشتراكيين إن طبقوا إجراءات مكملة يطالب بها زعيمه بابلو إيغليسياس.

ومن المؤكد أن بيدرو سانشيث، رئيس الوزراء ، يحسب ألف حساب لعامل الوقت لذلك سارع إلى مباشرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي ينتظرها الإسبان واتخذ إجراء مهما يتمثل في مجانية وتعميم الحق في العلاج . وفي الواجهة القانونية عبر سانشيث عن الرغبة في مراجعة الدستور بما قد ينهي المشكل الترابي عبر معالجة قانونية متفق عليها لوقف طموح كيانات مطالبة بالانفصال، تجاوزت مطلب التخفيف من هيمنة السلطة المركزية .

إن التعديل الدستوري ورش كبير ليس من اليسير اتفاق الفرقاء على بنوده في ظل الانقسام الحزبي وتباين النزعات الإقليمية. زد على ذلك فإن إشغال السياسيين بجزئيات التعديل ، يمكن أن يطيل عمر حكومة سانشيث إلى غاية انتخابات2020 لتنبثق عنها خارطة مغايرة قد تعيد الحزب الشعبي إلى صدارة المشهد السياسي .

وكيفما كان السيناريو ،سيظل الحزب ، رقما أساسيا ، قادرا على عرقلة أو تيسير الإصلاح الدستوري؛ فإن تعارض مع ما يعتقده اليمين الإسباني مبادئ أساسية لاستمرار واستقرار المملكة الإسبانية، بتنوع ثقافاتها وتعدد أعراقها، واختلاف مناطقها ؛ فإن "الشعبي "سيسعى إلى عرقلته ، بينما يستطيع الحزب الاشتراكي ، كقوة وسط واعتدال ، الدفاع عن تعديلات غير مزعجة لليمين ومغازلة لليسار وحذرة من غلو القوميين.

لن تكون العملية سهلة . ونتيجتها سوف تتوقف على مهارة الفاعلين السياسيين وتجاوب المجتمع.