كثير من العراقيين كانوا يأملون أن الانتخابات الأخيرة ستفضي لعهد جديد، وتكون انعطافة نحو التغيير والتحديث والبناء الكبير، وإن الرجال والنساء الذين ستأتي بهم سيبنون الدولة المدنية الديمقراطية الجديدة.

لكن نتائجها جاءت مخيبة للآمال، بل كارثة وطنية كبرى يحق أن تنكس لها الأعلام خجلا، ويعلن في مأتمها الحداد العام!

قبل الانتخابات العراقية بأيام كتبت مقالا بعنوان ( الناخب العراقي بين صندوقين) نشر هنا في "إيلاف " تحدثت فيه أن نتائج انتخابات العراقيين لا تتوقف على الصندوق الذي سيدلون فيه بأصواتهم، بل على صندوق ثان مسكوت عنه ومدلس عليه، لا يراه أحد ولا يعرف مكانه تماما لكنه سيكون هو الحاسم وله الكلمة الفصل! يمكن أن يسمى "الصندوق الأسود" والذي هو " تحت بحر متلاطم ، أشبه بكهف السحرة والمردة والمشعوذين، زاخر بالأشباح الدولية والمخابراتية المسلحة بالمال والبنادق والقدرة على فرض ممثلها على كرسي الحكم بالضد من إرادة الشعب!" 

"وثمة من يقولها بعبارة صريحة أنه صندوق مخصص لأمريكا وإيران، وثمة من يضيف لهما بريطانيا والسعودية وتركيا وقطر ودول الخليج الأخرى!

"والوجوه المطلة اليوم جحافل طامعين جشعين سيواصلون نهج اغتصاب الدولة والشعب وانتهاك العدالة والمال العام ، وارتكاب الفواحش!" 

ومن المؤسف أن ما توقعته قد تحقق بل وبأسوأ حال، لقد وصلنا اليوم إلى الصندوق الذي جاء أسود بل رمادا بعد ما تعرض للحرق والتفجير والتزوير وكل موبقات ورذائل الأشرار والقتلة والطامعين بالسلطة دون وجه حق!

قلت في ذلك المقال أن علينا المشاركة في الانتخاب رغم هذه المخاوف التي تحققت اليوم، لكن المقاطعين كانوا هم الأكثرية وبالطبع لا يجدي لومهم فهم سيقولون: "ها أنتم ترون أن الأصوات قد زورت وابتلعت أو التهمتها النيران، وكانت مشاركتنا ستذهب سدى!" 

ومع ذلك فإن من المنطق القول أيضا أن الحضور الانتخابي لو جاء بحجمه الشعبي الهائل كان يمكن أن يلجم (أو يحد بمستوى ما) من جرائم المزورين والمعتدين على الانتخابات، فالأقلية الناخبة بضعفها تغري المتجاوزين عليها! والقضاة يقولون أن لا نص في القانون يشترط حدا أدنى للمصوتين وإن الأمر يؤخذ بمن حضر!

الذين شاركوا في الانتخاب لا يصلون إلى 20% من مستحقي التصويت، وإذا عرفنا أن هذه العشرين بالمائة قد تعرضت هي ذاتها للتزوير والانتهاك فإن الأصوات النظيفة حسب أفضل التوقعات لا تتعدى العشرة بالمائة!

أي أن تسعين بالمائة من الشعب العراقي لا شأن لهم ولا إرادة ولا قناعة ولا رضا عن البرلمان القادم أو الحكومة التي ستنبثق عنه، بعبارة أخرى أن هناك انقلابا صامتا قاده طائفيون ومزورون وفاسدون لتعزيز مواقعهم في سلطة شعروا أن الأرض تهتز تحتها وقد يفقدونها! لذلك استقتلوا واستماتوا وارتكبوا كل دنيئة ولئيمة من أجلها!

لكن انتصارهم هذا سيعطي مشروعية لردود أفعال شعبية من الصعب التكهن بحجمها أو مداها أو على أي حد ستقف، ليس على الفور بل بعد تراكم لاحق!

وبدلا من الحديث عن هذه الحقائق الفاجعة يدخلون الناس اليوم في متاهات العد والفرز اليدوي ممزوجا بالإلكتروني وغيرها من الإجراءات التي لن تغير من الفساد والخراب الكلي للانتخابات شيئا! بل أن مرجعية السيستاني التي كانت قبل خمسة عشر عاما هي الداعية الأولى وبحزم مقدس لانتخابات لم تنضج ظروفها فأفرزت قائمة الشمعة المتخمة بالفاسدين وغير الجديرين بالمسؤولية، وكل الانتخابات الملهوجة المنخورة بعدها دعت اليوم لعدم الانشغال بهذه النتائج بل "بداعش" وكأنها تقول خذوها على علاتها، بينما ما كان يمكن لداعش أن توجد أصلا لو تحققت إرادة العراقيين في نبذ الطائفية ودحر الفساد والتمسك بالنهج الوطني والمدني، وفصل الدين عن الدولة والسياسة! 

من لا زال يرقب الأوضاع يرى أن من يتصارعوناليوم على الورقة الأخيرة والكلمة الفصل في هذا الصندوق الأسود هما أمريكا وإيران! وما على العراقيين سوى أن يكونوا آخر من يعلم!

قادة أحزاب المليشيات المسلحة المرتبطة بإيران، والتي يقول بعضهم صراحة أن مصلحة إيران لديهم هي المفضلة والمقدسة؛ هم اليوم في عجلة من أمرهم وفي نشاط محموم يسابقون أمريكا خشية أن تلجم إيران أو تحد من عبثها في المنطقة بعمل ما، خاصة وثمة أنباء تتوارد عن أنها تزيد من وجودها العسكري في العراق وتشدد الخناق على إيران بعقوبات ثقيلة قاتلة ما أدى لانهيار عملتها وتفاقم مساوئ وضعها الاقتصادي وانطلاق تظاهرات الاحتجاج الساعية لإسقاط النظام! وسقوط نظام الملالي في طهران يعني أن النظام الحالي في بغداد سيكون في مهب الرياح!

وأمريكا تتحرك في العراق على قوى فائزة في الانتخابات وغير فائزة من الطائفتين ومن الكرد والتركمان للوقوف بوجه رجال إيران وتتحدث عن حكام عسكريين للمناطق المضطربة، ورغم إن تجربة العراقيين وكثير من الناس في العالم مع أمريكا كانت سيئة وفاشلة حيث الأمريكان يريدون إبقاء بؤر النزاع بين الطوائف والقوميات مشتعلة ليصطادوا غنائمهم إلا إن كثيرين يمضون معهم يأسا من العملية السياسية الفاشلة، أو نكاية بإيران وأصحابها!

من الغريب أن حركة (سائرون) والتي صارت اليوم محور الحوارات والائتلافات بعد أن كانت تتحدث عن الوقوف مع الحق والعدل والتغيير العميق (شلع قلع)،ما جعل تحالف الشيوعيين وبعض الديمقراطيين والوطنيين معها يبدو معقولا آنذاك،تنقلب اليوم على وجهتها السابقة ولا تقف مع الداعين لنتائج انتخابية صحيحة حتى لو اقتضى الأمر إعادة الانتخابات على مستوى البلاد كلها،ونراها الأشد تمسكا بنتائجها رغم فسادها المشهود والموثق! من المعروف طبعا أن القوى التي تدعي الثورية في الشارع كثيرا ما تترهل وتفسد حين تدخل أروقة السلطة، فكيف إذا كانت هذه القوى دينية متخلفة، ولاح لها الكرسي الذهبي؟ 

هذه الانتخابات هي الأغرب والأكثر عجائبية في العالم، فقد عجت بالمطاردات والحرائق والتفجيرات ومسلسلات الرعب والإغراء وبما تعجز عنه أفلام هوليود! 

والأخطر أنها ستنتج برلمانا لا يثق به الشعب، ويرى أن قراراته منذ الآن باطلة وغير شرعية لأنه هو نفسه قام على التزوير والاغتصاب واللعب بالقوانين!

إنه أول برلمان في العالم يدخله هذا العدد الكبير من النواب المستقوين بميليشياتهم وأسلحتهم الثقيلة والمتوجين كأمراء حرب،مرة تحت غطاء الدولة ومرة بأيدهم السلاح "المنفلت"!

كثير من الناس صاروا يدركون أن البرلمانوالحكومة الذين سيتكونان على ركام هذه الانتخابات الفاشلة سيكونان خندقا للمزورين والفاسدين والمتعصبين طائفيا وعنصريا! لذا فهم يتوجسون منهما خيفة وقلقا! كما إنهما لن يحظيا بثقة العالم ولا منظماته المدنية والحقوقية المراقبة للشرعية ما يجعل حضورهما الدولي ضعيفا ومزعزعا لا يمكنهما من مجابهة الأخطار الخارجية خاصة وإن المنطقة ملتهبة ومعرضة لكثير منالأخطار والتحديات الكبيرة! 

لذا فلا مناص من إلغاء نتائج هذه الانتخابات والتوجه خلال ستة أشهر على الأكثر لانتخابات جديدة تجري تحت إشراف الأمم المتحدة والقضاء العراقي!

بدون ذلك فإن البرلمان والحكومة القادمين سيكونان مولدين لكوارث ومصائب تعيد دورة الفساد والإرهاب إلى ما هو أسوأ مما شهده العراق في الحقب السابقة، وبما قد يؤدي إلى انهياره تماماً!