على هامش أحد المؤتمرات التي عقدها المنتدى العربي في لاهاي مؤخرا، جرني الحديث مع أحد الأصدقاء الضيوف إلى تجربة quot;إيلافquot; المثيرة. و صديقي هذا صحفي جيد ومعروف، له تجربة في العمل مع الاستاذ عثمان العمير ما يقارب الخمسة عشرة عاما، و له نقاشات ومساجلات معه، ومن ملاحظاته الأساسية أن الرجل صاحب مرجعية فكرية عميقة لا يستهان بها، لكنه في الآن نفسه صاحب رؤية مهنية شديدة الإخلاص و الارتباط بالصحافة في تقاليدها وآلياتها وجرأتها و قدرتها على تحريك الراكد وجذب الانتباه وصناعة رأي عام.
كثير من القراء العرب ndash; وأنا واحد من هؤلاءndash; نرى في كثير من الأحيان صور الصدور العارية و النهود البارزة و وجوه جميلات إيلاف الفاتنة، وهي تتصدر مواقع متميزة في قلب الصفحة الرئيسية، ابتذالا مبالغا فيه و لعبا على المشاعر والأهواء غير السوية، لكن مدقق النظر، وهو يقلب صفحات مواقع quot;الليبراليينquot; الملتزمة الباردة، يدرك أن التقنيات الصحفية يجب أن تعتمد قدرا من الإثارة، ومن التواضع لأمزجة القراء، حتى تتحقق المعادلة ويضمن قدر من القراء لهؤلاء الذين يكتبون بلغة مستعلية، خشبية في غير مرة، صعبة الهضم لا تستساغ، فحري أن تمرر باستراق النظر إلى صدر هيفاء أو ملامح نانسي الناعمة.
كثير من القراء العرب ndash; وأنا واحد منهم كذلك- نستثقل تخصيص إيلاف لأيام متتالية، إن لم أقل سنوات، حيزا غير هين للعناية بأخبار quot;المثليين العربquot; ونضالتهم المستمرة والمضنية ndash;ما شاء الله- من أجل انتزاع الاعتراف بآدميتهم وحقوقهم في ممارسة طقوسهم الخاصة، ولعل مصدر هذا الاستثقال فطرة عربية إسلامية محافظة يصعب تغييرها أو مراجعتها لكونها آتية من أعماق الأنا، لكن المرء مضطر إلى التوقف لحظة للتفكير عندما يرى أن نسب قراء مواد المثليين والتعليقات عليها تفوق تلك الخاصة بأكثر كتاب الليبرالية شعبية وقراءة، ولا أقصد هنا إلا شيخ الليبراليين العرب أستاذنا الدكتور شاكر النابلسي حفظه الله.
الصحافة تقنيات وآليات وملكة خلق وابتكار، واعترف بأن بينها و بين الروح التي تسكن كتاب الرأي من مفكرين و مثقفين وأكاديميين بون يصعب جسره، لكن إيلاف على أي حال أثبتت طيلة ما يقارب العقد من حركتها اليومية، قدرة على تحقيق أسباق في رهاناتها على إتاحة الفرصة أمام كتابها لخوض أعقد القضايا و المشكلات الفلسفية والفكرية والسياسية دون أي رقابة، وفي الوقت ذاته البقاء في صدارة المنافسة في سباق الصحافة الأكثر شعبية، حيث لم تتحول ككثير من مواقع المثقفين الليبراليين أو غيرهم، إلى منتديات مغلقة لا يستمع فيها الكتاب إلا لصدى أصواتهم.
ومن الأشياء اللافتة في سيرة إيلاف، أنها وفرت حيزا استثنائيا لردود وتعليقات القراء، وقد انتبهت إدارتها مع الأيام، إلى أن هذا التوجه إن بقي دون quot;تحريرquot; سيحول الحرية إلى فوضى، و أن كثيرا من القراء ربما، يجهل أن تعليقاته و ردوده تشكل جزءا لا يتجزأ من مادة الصحيفة، وأن مستوى إيلاف مسؤولية يشترك فيها الجميع وفي مقدمتهم قراؤها، وأن استغلال الحرية المتاحة لتصفية حسابات شخصية أو فئوية أو حزبية أو طائفية أو دينية، عملية تنطوي على كثير من الأنانية واللامسؤولية. وعلى أي فإن المعادلة ما تزال مطروحة، كيف يمكن ضمان مساحة من الحرية للقراء دون أن تخسر الصحيفة احترامها أو تقع تحت طائل المسؤولية القانونية، واعترف أنني لا أملك شخصيا حلا للمعادلة، إذ يعز علي مصادرة الآراء حتى المشططة منها، تماما كما يعز علي أن يقع قراء يكتبون بأسماء مستعارة في الابتذال وهتك الأعراض وتسخير الصحيفة لخدمة أغراض دنيئة.
ثمة كذلك مسألة لا مناص من الإشارة إليها في مسيرة صحيفتنا المظفرة، التي أشهد أنها لم تراجع حرفا واحدا أو تغير كلمة واحدة من مقالاتي المنشورة على صفحاتها طيلة السنوات الطويلة التي أمضيتها ndash; وما أزال أفعل ان شاء الله -، وهي كيف يمكن أن نستمر مخلصين لقضايا الديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان في العالم العربي، دون أن تفقد إيلاف حقها في الوصول إلى القراء العرب، فالكل يعرف أن جل الأنظمة العربية قد اكتسب القدرة التقنية على حجب المواقع وحرمان المواطنين من حقهم في الوصول إلى المعلومة والخبر والتحليل، و لا بد من أن اعترف مجددا أنني لا أملك حلا لهذه المعادلة، فمن جهة يعز علي أن لا تكون إيلاف نصيرا لأصوات التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان، و من جهة ثانية فإنه ليس بوسعي إلا أن أعذر كل إدارة تحريرية في سعيها للإبقاء على شعرة معاوية مع الأنظمة، والعمل على عدم الوقوع في دائرة الحظر و الممانعة.
و ختاما، يهمني أن أسجل للاستاذ عثمان العمير ndash; الذي لم أتشرف بلقائه حتى كتابة هذه الأسطر كما يقال ndash; أنه خرج من موقع صحفي سلطوي وهو في أوج زعامته، ولما فكر في خوض غمار تجربة جديدة، اختار السبق بالرهان على الصحافة الالكترونية، التي يقال أنها صحافة المستقبل، غير أنني أقول أنها بالنسبة للعالم العربي، وعلى الرغم من كل المؤشرات التي تثبت تنامي عدد قرائها، ما تزال تحديا ورهانا، وأنها من ناحية الجدوى والمردودية لا تتفق أبدا مع حجم زوارها، و أنه بينها وبين نظيرتها الغربية مسافة لا تقل للأسف الشديد عن عشرين عاما، ولهذا فإن صاحب المبادرة الإيلافية مشكور جدا على صبره عليها وإيمانه الصوفي بمستقبلها، فأن يكون للعرب صحيفة الكترونية يومية بمستوى إيلاف أمر قد لا يكون متوفرا لكثير من الأمم، التي تفوقهم عددا وعدة.
ولأن القارئ الالكتروني عجول ملول، اكتفى بهذا القدر من الشهادة، مفسحا الركح أمام روبي ونانا وشقيقاتها الفاتنات، ففي إيلاف متسع للجميع، و صبر على الجميع.