&
تتجسد الحداثة المعمارية، وخصوصاً نماذج ما بعد الحداثة منها في لندن. وهو امر، قد يبدو مفاجئاً وحتى غير متوقع، لما عرف به الإنكليز من ولع بالمحافظة وبالتقليد! لكن هذا هو الوضع الآن. بل وتعتبر لندن "مهداّ" ومنبعاً لعمارة ما بعد الحداثة. لنتذكر، على سبيل المثال، "زهاء حديد" ومقرها اللندني. نعرف أيضا ان "نورمان فوستر" )1935) Norman Foster، تمكن منذ وقن مبكر ان يشيدّ من خلال مقاربته التصميمية ما بعد الحداثية نماذج تصميمية تكرس هذا النهج الطليعي في الأرض الإنكليزية. بيد ان رؤية نموذجه المثير في "السيتي": مركز لندن الحضري، في &30 St Mary Axe، ذلك المبنى ذو الفورم الاستثنائي والهيئة الغريبة (يقال، وفقا، لمصادر غير "ودية" بان مكتب "فوستر"، استحوذ على هيئة مبناه من عمل المعمار الفرنسي "جان نوفيل"، الذي كان هو الآخر يشتغل، بالتزامن، على اجتراح عمارة مبناه البرشلوني "توري اغبار" Torre Agbar في اسبانيا، شكله الذي يشبه الى حد شكل مبنى "السيتي" اللندني، والذي اكتمل تشييده في ذات السنة 2004، لكن ذلك قصة ... آخرى!). ورؤية المبنى موقعياً، الذي يشبه شكله، شكل "الخيارة" (والذي يعرف الان بها: مبنى الخيارة!)، لهي مناسبة فريدة وممتعة في آن. فاللقاء بعمارة تنزع الى "تهشيم" كثر من القناعات، وتسعى وراء إزالة بعض اليقينيات المغلفة بمفاهيم "الثوابت" ورؤيتها "تعمل" موقعياً، يضفي الى ذلك اللقاء بريقاً وإشراقا من نوع خاص! انها، من دون ريب، نموذج مبهر في تغيير اساسيات العمارة، وخلع "قدسية" الثوابت المعمارية التي لازمت طويلا مسار العمارة، ورسخت، بالتالي، قيماً ومبادئ في فهم معنى العمارة وفي إدراك معنى "السياق" الحضري والبيئي، الذي ظل يمثل لدى المحافظين مفهوما محرما، لا يمكن تجاوزه، او عدم مراعاته، او تجاهله! انها، عمارة تشي بمعنى التغيير الحاصل في الذائقة الجمالية، والتطلع نحو آفاق معرفية واستاطيقية جديدة تمجد الاختلاف والتنوع! انها، بشكل وبآخر، تدلل عن معنى التجديد، وعن معنى الحداثة، انها، في الأخير، اختراق جريء لمعايير وقيم لما هو سائد و"محافظ" عليه من قيم، كانت، ذات يوم، وفقا لمقولة "بيتر ايزنمان" مترعة بـ "الأوهام": أوهام التقليديين، او المحافظين الجدد، الذين لا همّ لهم الا عرقلة عملية التجديد والتغيير، واثبات قناعاتهم، ونشر مفاهيمهم، والسعي وراء تبنى طروحاتهم من قبل الجميع، بكونها قيماً غير قابلة للنقاش او التشكيك، وتسويق أنفسهم بأنهم جوهر وعنوان ما يتمثل به "الناقد الرسولي"؛ في وقت، لا يمكن ان يكون ثمة موقع لمثل هذا الناقد اليقيني في هذا الفضاء المعرفي المتجدد دوما!
عندما كنت في لندن مؤخراً، سارعت الى "زيارة" ذلك المعلم المهيب: مبنى فوستر بالسيتي، في "30 سانت ماري اكس" ـ الذي كان يدعى سابقا "سويس –ري" Swiss Re. ما يثير في هذا المبنى، المتكون من 41 طابقا وبعلو (180 مترا)، والذي وضع الحجر الأساس له في 2001، واكتمل في 2003، وافتتحته الملكة في ابريل 2004، ما يثير ليست، فقط، عمارته بهيئتها الاستثنائية، ونوعية تفاصيلها، وأساليب تقنياتها غير المطروقة، وانما، ايضاً، جراءة المعمار وبسالته، وايمانه في قبول و"تبني" البيئة المبنية المحيطة لتلك العمارة المتميزة والطليعية!
فهذا المبنى، المشيد على أنقاض مبنى آخر، سبق وان تعرض الى اضرار واسعة، جراء انفجار بقنابل وضعها "الجيش الأيرلندي المؤقت" سنة 1992في شارع 30 سانت ماري اكس، الشارع الذي اخذ المبنى اسمه منه؛ هذا المبنى، الذي يعتبر الآن، احد مباني العاصمة البريطانية المشهورة، واحد اهم إنجازات عمارة ما بعد الحداثة، وأيقونة لها، يضع حداً لتلك التقولات التي ترسخ تأثيرها، ونفوذها، وسطوتها في الخطاب المعماري التقليدي والمحافظ لفترة زمنية طويلة؛ والقائلة بان ثمة لزوما إجبارياً يستوجب على المبنى المستقبلي المنوي تشييده في بيئة حضرية محددة، ان يراعي "خصوصية" تلك البيئة المحيطة، وان "يستوحي" مفردات "تشكيل" وصياغة واجهاته من شواهد تلك البيئة المجاورة. هذا المبنى، لهو مثال صارخ وبرهان واضح، لعدم صدقية تلك التقولات والرؤى السابقة! فعمارته لهي دليل إضافي، عن ضرورة إيلاء اهتمام زائد لحدث "التغيير"، ومنح خطابه فرصة مناسبة للعمل في ترسيخ التعددية المعمارية، ومن ثم استيلاد فورمات جديدة، قادرة لان تكون جديرة في تمثيل زمننا الحاضر: زمن التغييرات الكبرى وعصر الالكترونيات والتجدد الدائم!
وهو درس بليغ في معنى المتغير، وفي معنى الحداثة؛ درس يتعين فهمه، وادراكه، واستيعابه، والتعايش مع مخرجاته، وربما... القبول بها! □□&
&
معمار وأكاديمي
&