&الشعر ديوان العرب وفن العربية &الأول. حقيقة لا مراء فيها، بيد أن السؤال: هل كان الأمر خيرا في مطلقه؟ أم اكتنفته شرور قلما التفت إليها المهتمون بالأدب؟ الوضعية التاريخية للشعر أوجدت حالة من الشعبية المخاتلة، أفرخت الكثير من الأكاذيب – وما زالت – على امتداد عقدين من القرون، منها – على سبيل المثال لا الحصر – استدلال منطقي فاسد مفاده: ما دام الشعر ديواننا فنحن نعرفه كما يعرفنا، ولسنا في حاجة لأدنى جهد في التعاطي معه، كتابة وتذوقا ونقدا.. فإذا صادفتنا تجارب ونصوص تحتاج منا تلك الدرجة &الأدنى من الجهد، فهي ليست من الشعر الذي يعرفنا ونعرفه، أي ليست شعرا من الأساس! وليت الأمر قاصر على رذيلة الكسل، فهناك الامتثال الأعمى لأحكام القدامى ولكل ما هو قديم، رذيلة أخرى أَلْصَقَتْ بـ ( الشعر ديوان العرب ) حُكْمَ قِيمَةٍ؛ فصارت العين القارئة للمعلقات – إن قرأتها – عينا بليدة تمرر كل ما تطالعه من باب عظمة الإبداع والإعجاز دون أن تُقَذِّيهَا الثرثرةُ والسطحيةُ والجهالةُ والقبحُ الظاهر بين السطور وتحتها وفوقها وعلى جانبيها! ناهيك عن عيوب الهلهلة والتفكك وانعدام القدرة على البناء داخل النص.. هذه العيوب التي إن جاهرْتَ بها تصدى لك مدافعا – بشراسة وعدوانية – غير مبررتين – من يتهمك بالتجني والجهل، إذ كيف تحكم على نصوص قديمة بمعايير حديثة لم تكن متاحة في عصرهم؟ وقد نسي المدافعُ الشرسُ أن نصوصا إبداعية أنتجتها البشرية في أماكن أخرى من العالم وفي عصور سابقة ومعاصرة لشعرنا الجاهلي، وقد انطوت على خبرات فنية وجمالية نأت بها عن هذه العيوب..

هكذا يؤدي الخلط &بين مقولة صحيحة تعبر عن حب أمة للشعر وبين اعتمادها حكم قيمة إلى تشويه أبسط وأعمق نقاط الحس الإنساني فينا؛ ليقف كل فرد من الشعر موقف المنفعة الانتهازية، فيراه أحدنا في الكلام الموقع تطرب له الأذن، ويراه آخر في تصفيف كلمات تنخس داخله شعورا تسيد مراهقته، وهناك أكثرهم قبحا وتشويها هذا الذي يراه صَبَّ قوالب اعتمدها القدماءُ &- المقدسون بلا سبب – وكلما تطابق المكتوب مع القالب القديم كان الشعر.... الشعر الوحيد الحقيقي الذي يعرفنا ونعرفه..
الخلط بين البديهيات تتم رعايته على أرضية من تضخم الذات، تزين لصاحبها عدم إزعاج الذهن بتعريف الأشياء وبالتالي عدم مراجعة سلامة هذه التعريفات – غير الموجودة أصلا &أو المغلوطة والمعيبة إن وُجِدَتْ – هذا الخلط الذي أغرى الآخر بنا حد استمرائه عمل استبيانات حصرية لمجتماعاتنا من نوع: هل تعتقد أن مضاجعة الرجل لزوجته دون رغبة منها يُعَدُّ اغتصابا؟ ولا ينسى أن يضع لنا خيارات إرشادية: نعم. & &لا. & لا أدري.&
ومن المؤسف أن هذا الخلط يشع بظلامه ليغمر وجودنا عبر بؤر تتخذ شكل مؤسسات وُضِعَتْ لا للارتقاء بالوعي وتنشئة أفراد قادرين على المشاركة في بناء مجتمعهم ومنحه صورته المتوافق عليها من قبل القوى والتيارات المنتمية لهذا المجتمع، الأمر الذي يجعل المؤسسة التعليمية ونظم التعليم في مجتماعاتنا في حالة تدهور مستعصية، لا تعالجها المؤتمرات ولا المقترحات ولا استنساخ نظم تعليمية من مجتمعات أخرى، حقائق قديمة يُغَضُّ الطرف عنها، ففي مقالة لإليوت عام 1932 عنوانها: عن التعليم الحديث والكلاسيات: ( ما دامت أراؤنا عن نوع المجتمع الذي نريده غامضة ومختلفة معا، ما دام ليس لدينا نظام مستقر للمجتمع؛ فسيبقى التعليم في تدهور )* يتكلم إليوت عن أزمة التعليم في مجتمع بلا نظام مستقر وغائم الرؤية، فماذا عن مجتمعات بلا نظام من أساسه ومعدومة الرؤية! &
بقليل من التأمل نصل إلى الأكثر فداحة، تدهور أي نظام تعليمي تقع جل آثاره التخريبية على الفنون والآداب، ثم المعارف المجردة، ثم العلوم الوضعية المادية بدرجة أقل. بمعنى أن تدهور نظام التعليم يفعل فعله الأقوى على مستوى تخريب الروح والحس الإنساني؛ فيصبح الجسد العاري في الفن التشكيلي دعوة للفجور، ومشهد الجنس في العمل الأدبي، حتى لو كان اغتصابا، يصبح إثارة للغرائز!!... &والأمثلة لا حصر لها... وفي ظل الأرواح الخربة كيف تنجو العقول أو ينجو أي شيء له قيمة؟ حتى العقول سَتُسْلمُ الزمامَ لهذا القوي الهادرِ الضال منعدم الرؤية والتوجه وتظن أنها بذلك تلزم جادةَ الصوابِ..
أذكر لقاء جمعني بشاعر صديق يشبهني ويشبه الملايين ممن أخضعوا للتنشئة في هذا النوع من المجتمعات ... مثلي تلقى تعليما حكوميا مجانيا، وينتمي أيضا لمدينة إقليمية، وهو في الحقيقة شاعر جميل، في معرض حديثه عن الشعر والنظام التعليمي، أنه لفداحة تكرار (الشعر ديوان العرب) على سمعه دون ماقشة أو تفسير، أصيب بدهشة عارمة بداية المرحلة الجامعية حين وقع بين يديه ديوان شعر مترجم إلى العربية، كيف يُكْتَبُ شِعْرٌ في اللغات الأخرى؟ أليست كتابة الشعر قاصرة على العرب؟!! هكذا يُشَوَّهُ الْحِسُّ الْعَمِيقُ بإنسانيتنا ويُشَوَّهُ معه وَعْيُنَا بالعالم من حولنا.

المختار من نقد ت. س. إليوت، اختيار وترجمة وتقديم: ماهر شفيق فريد الطبعة الثانية 2009 ، الجزء الأول، ص: 644المركز القومي للترجمة، القاهرة