كان الكاتب الاميركي ستيفن بلوك من المعجبين بأعمال صموئيل بيكيت حتى انه حفظ على ظهر غيب مقتطفات كاملة من مسرحياته. &وبعث بلوك برسالة من نيويورك اواخر الستينات الى بيكيت يقول فيها مستغيثاً انه بدأ يكتسب السمات الشخصية لأبطال بيكيت مثل واط ومولي ومواقفهم دون ان يتوقع ردا من الكاتب المعروف باعتكافه وهروبه من الأضواء. ولكن في آذار/مارس 1968 جلس بيكيت في شقته الباريسية وكتب الى بلوك رسالة قال فيها "أنا أجد من المحال ان أكتب عن عملي أو اتحدث حوله. &فان صلتي الوحيدة به تأتي من الداخل وأنا افهم بصورة ناقصة جداً تأثيره في القراء والنقاد". &وترد صيغات مماثلة المرة تلو الأخرى في رسائل بيكيت التي صدر حديثاً الجزء الرابع والأخير منها. وفي حين ان بيكيت كان معروفاً بصمته عن عمله فان هناك استثناءات تتوزع على الأجزاء الأربعة التي تضم نحو 3000 رسالة. &ولكن مَنْ يأمل بالعثور على اجابات عن الكثير من الألغاز التي تتخلل شعر بيكيت وقصصه القصيرة ومسرحياته ورواياته في هذه الرسائل سيصاب بخيبة أمل. &إذ يكتب بيكيت الى الأكاديمي جيمس نولسن في عام 1972 "أنا بكل بساطة لا أعرف عن عملي إلا القليل الذي يقرب من لا شيء ، بقدر ما يعرف السباك عن تاريخ علم الهيدروليك".&
كان بيكيت إبان السنوات التي يغطيها الجزء الرابع والأخير من رسائل قامة شامخة في الأدب حتى قبل ان يُمنح جائزة نوبل عام 1969 رغم ان كلمة "جائزة" ليست مناسبة على الاطلاق هنا لأنه نظر الى الجائزة على انها تهديد لإبداعه واعلن "آمل بأن يصفح عني العمل ويسمح لي بالاقتراب منه مجدداً". كان بيكيت يقضي اجازة في تونس مع زوجته عندما ابرق اليه ناشره قائلا "رغم كل شيء أعطوك جائزة نوبل". &وبعد اسبوع كتب بيكيت الى صديقته باربرا براي مبدياً ضيقه الشديد من الجائزة وما رافقها من تغطية اعلامية بالقول "هنا الأمور فظيعة حقاً بلا أمل يُذكر في تحسنها". &
بجائزة نوبل اصبح بيكيت من المشاهير أو "محكوم عليه بلعنة الشهرة" كما كتب الى الأكاديمي نولسن الذي استخدم العبارة عنواناً لسيرة حياة بيكيت حين أنجز كتابتها بموافقة بيكيت نفسه. &ولكن الاعلان عن سيرة اخرى لحياة بيكيت كتبتها هذه المرة ديردر بير يوفر واحدة من لمحات عديدة على هذه السيرة في الجزء الرابع من الرسائل. &إذ يكتب بيكيت في رسالة الى بير عام 1971 انه لن يساعدها في تأليف سيرة حياته الجديدة ولن يعيقها. &ويكرر لازمته "ليس لدي ما اقوله عن عملي" قبل ان ينصحها بالتفكير مجددا "قبل ان تَقدمي على هذا المهمة الشاقة التي لن تلقى من يقدرها". &ويلاحظ في عام 1974 "انها ، حسبما طرق سمعي ، ليست معروفة بالتزامها الصارم بقول الحقيقة". &وصدرت سيرة حياة بيكيت بقلم بير عام 1978 وبعد عشر سنوات كان بيكيت لم يزل ممتعضاً منها ونصح مترجم اعماله الى الالمانية ألا يترجم "ما نسجه خيال بير" كما وصف سيرة حياته بقلمها. ويلاحظ الناقد كريس باور ان تحرير رسائل بيكيت جاء نموذجاً للبحث العلمي وبراعة الاختيار بعكس الاجحاف الذي شعر به بيكيت في اقسام من سيرة حياته التي كتبتها بير. &إذ ليست هناك صفحة واحدة من هذه الرسائل إلا وفيها ما هو مشوق ومثير. ويقول المحرر دان غان الذي كتب مقدمة الجزء الرابع "ان الخط الفاصل بين العمل والحياة ، وهو خط لا يكون واضحاً بالمرة ، يصبح اقل وضوحاً مع تقدم بيكيت في العمر ومع ضمور استعداده لإدارة الجوانب العملية من إخراج مسرحياته ، واستناد كتاباته ، على ما يبدو ، الى ركن من حياته أقل علانية وأكثر حميمية". &&
كان بيكيت من الكتاب النوادر الذين استمروا في الانتاج على أعلى المستويات طيلة حياتهم. &والشاهد على ذلك نصه النثري الرائع "حركات ثابتة" Stirrings Still الذي نشره عام 1988 حين كان في الثانية والثمانين من العمر. &ويكتب بيكيت الى الشاعر نيكولاس راوسن في عام 1981 "لا شيء يستحق الذكر عن نفسي فأنا سائر على طريق الوداع الطويل". &وكان وداعاً طويلا بحق. &ففي عام 1969 ، قبل 20 سنة على وفاته ، حين كان يتولى إخراج مسرحياته بكل نشاط ، اعلن "ان هناك طُرقاً اسوأ لانهاء الحياة". كان بيكيت سوداوياً متشائماً في اعماله. &ويكتب في رسالة عام 1983 انه يتذكر قول كافكا في يومياته "البستنة. &لا أمل بالمستقبل". &ويقول بيكيت "ان كافكا كان على الأقل يستطيع ممارسة البستنة". بعد فترة وجيزة على وفاة زوجته سوزان في عام 1988 كتب بيكيت "أخشى ان خرابي خراب لا صلاح له ، جسداً وعقلا ، بل يتفاقم مع كل يوم يمر". &وفي الحقيقة ان الموت يسكن الجزء الرابع من رسائل بيكيت. &ففي عام 1967 يموت صديقه توماس ماكغريفي الذي يضم الجزء الرابع رسائل عديدة كتبها بيكيت اليه. &ويعقبه آخرون يشير بيكيت الى موتهم باقتضاب حزين وحزن مقتضب. &وفي النهاية يحين الوقت الذي يحس فيه بيكيت ان ساعته هو دنت. &ويكتب في عام 1987 "سقطتُ في الحديقة العامة. &جروح ورضوض. &التأمت الآن. &تردٍ ملحوظ في هذا العام الأخير". &
في بداية العقد الأخير من حياته يكتب بيكيت الى المدير المسرحي الآن شنايدر "اغفر لي صمتي الطويل. &لا عذر لي. مجرد صمت". &وبعد أشهر قليلة يصف نفسه بأنه "واحد أنهكته الكلمات". ويكتب الناقد كريس باول في مراجعته الجزء الرابع من رسائل بيكيت انه في عقده الأخير وجه الكثير من الطاقة التي اودعها في مراسلاته نحو فنه الذي اخذ يجد صعوبة متزايدة في استكماله. &وكتب بيكيت الى الأكاديمي جيمس نولسن في عام 1983 "فترة جدباء جداً من حياتي. &فالجدار لا يبتعد وأنا ليس لدي ما يعيدني الى الوراء ، بل لستُ قادرا على العودة الى الوراء". كان بيكيت دائما يصر على ان عمله ناقص ، كما يعبر في قصته "ويرستورد هو" (1984) حين يقول "هل حاولتَ ذات مرة. هل فشلتَ ذات مرة. &حاوِل مرة أخرى. &إفشل مرة اخرى. &إفشل بشكل أفضل". &وليس هناك عبارة أنسب لكاتب يحتضر من قوله في احدى رسائله الأخيرة الى صديقة الطفولة ماري ماننغ هاو "أرجو ان تكون الكلمات خذلتني الآن".&
رسائل صموئيل بيكيت 1966 ـ 1989 ، تحرير جورج كريغ ومارثا داو فيزينفيلد ودان غان ولويس اوفربيك ، دار كامبردج للنشر. &
&