&

لا يزال الشاعر الفرنسيّ الكبير ستيفان مالارميه(1842-1898)حاضرا في المشهد الشعري الفرنسي والعالمي كواحد من أبرز واضعيّ الأسس الأولى للحداثة الشعرية والأدبية. ومقارنة ببودلير، ورامبو، يبدو مالارميه شبه مجهول في الثقافة العربية. وصحيح أن البعض من الشعراء والكتاب العرب يتحدثون عنه بكثير من الإعجاب والتقدير،إلاّ أن حديثهم عنه عادة ما يظل سطحيا، وشبه خال من الإشارات الدالة على أنهم ملمّون بأسرار عالمه الشعري الموسوم بالغموض والإبهام والتعقيد .وباستثناء بعض الترجمات مثل تلك التي قام بها المغربي محمد بنيس لقصيدته الشهيرة"رمية نرد"، نحن لا نكاد نعثر على ما يفي بحاجتنا لمعرفة خصائص الشعر واالكتابة عموما عند مالارميه.
وخلافا لبودلير ورامبو، لم يعش مالارميه حياة صاخبة ومتقلبة، بل عاش حتى النهاية حياة عادية، خالية كلّيّا من المغامرات والعواصف العنيفة التي طبعت حياتي الشاعرين اللذين تقدم ذكرهما. وعكسهما، كان مالارميه هادئا، رصينا، مهذبا، ولطيفا في علاقاته الإجتماعية. وهو يلخص مجمل ما عاشه من أحداث في حياته في فقرتين وردتا في الرسالة التي بعث بها إلى فرلين بتاريخ 16 نوفمبر-تشرين الثاني 1885،وفيها كتب يقول:”فقدتّ أبي وأنا في التاسعة من عمري، ثم تولّعت بي جدتي التي تكفّلت بتربيتي. بعدها مررت بالعديد من المعاهد والمبيتات بروح لا مارتينيّة(نسبة إلى الشاعر لامرتين). وبرغبة خفيّة، أعوّض "بيرانجي" الذي التقيت به ذات يوم في بيت صديق. ويبدو أن ذلك كان عسير التحقّق، غير أنني، ولوقت مديد، ظللت أحاول أن اكتب في دفاتر صغيرة أبياتا صودرت منّي دائما إن لم تخنّي الذاكرة".ثمّ يضيف مالارمي قائلا:”عندما دخلت الحياة العمليّة، لم يكن هناك كما أنت تعلم، وسيلة للشاعر لكي يعيش بفنه حتى ولو أنزله إلى الحضيض. وأنا لم أندم على ذلك أبدا. وبعد أن تعلمت اللغة الإنجليزية فقط لكي أقرأ ادغار الن بو بشكل أفضل، إنطلقت وأنا في سنّ العشرين إلى انكلترا ولا هدف لي غير أن أتعلم اللغة وأدرّسها في مكان ما، هادئا ومطمئنا بخصوص قوتي اليومي.ثم تزوجت "….حياة كهذه لا يمكن أن تغري العرب، وتحثهم على اكتشاف صاحبها. فهم-أي العرب-فطموا على أن يكون الشاعر "بطلا" بمعنى ما، سواء كان ذلك في الحرب، أم في المجون، أم في العشق. أمّا الشعراء الإنطوائيّون، الميّالون إلى العزلة والتأمل مثل المعري، وشعراء الزهد والتصوف، فيبدون أقل توهجا في الذاكرة الشعرية العربية. وربما لهذا السبب، اهتم العرب ببودلير مثلا، وأهملوا مالارميه تاركين شعره في الخزانة الرمادية المقفلة. وأعتقد أنهم أخطأوا في ذلك خطأ جسيما. فحياة مالارميه لم تكن مسطحة كما هم يتصورون. ولو أنهم تحلوا بشيء من الصبر، وقلّبوا جيّدا في أطوارها وشعابها، لعثروا على ما يمكن أن يستثير فضولهم، ويحرضهم على قراءة هذا الشاعر قراءة مستفبضة ومتأنيّة. وصحيح أن مالارميه كان يبدو للناس رجلا عاديا، يسلك كل يوم نفس الطريق الذي سلكه بالأمس، ويهتم بحياته الزوجيه مثل موظف صغير يخشى عواقب المغامرة. وباستثناء الجلسة الأدبيّة التي كان يعقدها في بيته مساء كل يوم ثلاثاء، والتي كان يحضرها الطلائعيون من الشعراء والكتاب، وبعض العلاقات الحميمة مع فرلين، وغوغان،ومانيه، كانت حياة مالارميه تبدو فعلا خالية من كلّ ما يثير الإهتمام. فلا عشيقات، ولا عربدة في الشوارع، ولا رحلات مضنية تكثر فيها المغامرات والصدمات النفسية. مع ذلك كانت وراء هذه الحياة العادية، حياة باطنية منذورة لاستكناه أسرار الكلمة، وتفجير اللغة من الداخل لكي تبوح بخفاياها.كما هي منذورة لتحقيق حلم ظل يسكنه حتى النهاية، والمتمثل في إنجاز"الكتاب"، أو العمل الإبداعي المطلق"L'oeuvre absolue”.وتتجلى لنا صورة هذه الحياة في الفقرة التالية الواردة في نفس الرسالة التي بعث بها إلى فرلين، وفيها كتب يقول:”اليوم، وبعد مرور عشرين عاما، وبعد ضياع الكثير من الوقت، أعتقد بنوع من الحزن، أنني لم أخطئ في ما فعلت. فبالإضافة إلى المقطوعات النثرية، والأبيات الشعرية التي كتبتها في مرحلة الشباب، وفي المرحلة اللاحقة لها، والتي تبدو كما لو أنها صدى لها، والمنشورة هنا وهناك في كل مرة تصدر فيها مجلة أدبيّة، كنت دائما أحاول أن افعل شيئا آخر بصبر الخيميائيّ المستعدّ للتضحية بكل شكل من أشكال الغرور والرضى مثلما هو الحال في القديم عندما كان يقوم أحدهم بحرق أثاث بيته، وأعمدة سقفه لكي يغذّي موقد العمل الفني الكبير. ماذا؟من الصعب عليّ أن أوضح ما أقول: بكل بساطة كتاب في أجزاء عدة.كتاب يكون بحق كتابا، معماريّا ومتعمَّدا، وليس مجموعة من الموحيات التي تأتي بها الصدفة حتى ولو كانت مثل هذه المو حيات رائعة". وموضّحا الغرض من اختياره لهذا النمط من الحياة، ولتشبثه بالحلم المذكور، كتب مالارميه في نفس الرسالة يقول:”في الواقع أنا لا أرى أن العصر الحديث شبيه بالفترات الإنتقالية بين نظام حكم ونظام حكم آخر، وليس على الشاعر أن يتدخل فيه بأيّ حال من الأحوال. إنه عصر في حالة قصوى من العفاء، وفي فوران تمهيديّ بحيث لا يكون أمام الشاعر غير العمل في السرّ والغموض، عرف ذلك أم لم يعرف، وأن يرسل إلى الأحياء بين وقت وآخر بطاقته الشخصيّة، أو مقاطع شعرية أو سونيتة حتى لا يرجمونه إذا ما هم اشتبهوا بأنه لا مكان لهم عنده".
حياة مالارميه كانت مرتبطة إذن آرتباطا وثيقا بعمله الفني والإبداعيّ حدّ أنه بإمكاننا أن نقول إنه لم يكن برى لنفسه حياة خارج ذلك. والصراع الداخليّ المرير الذي كان يخوضه يوميّا بهدف إنجاز "الكتاب"، والذي أودى بحياته في سنّ مبكرة نسبيّا(56 سنة)هو الذي حجب عن العرب المعتودين على أن يروا الشاعر عاريا أمامهم، مادحا، أو هاجيا، أو عاشقا متيّما، أو متغنيا بشجاعته =ونبله وفصاحته وفحولته، المعنى العميق لصاحب"رمية نرد"، مانعا إياهم من الوقوف على سرّ المغامرة العظيمة التي خاضها في مجال الإبداع الفني المطلق.
أمّا الأمر الثاني الذي أعاق العرب عن فهم مالارميه فهو انعدام ترجمات جيدة مذيّلة بشروح وافيه لمجمل أعماله الشعرية والنثرية. فقد كان أيضا ناثرا من طراز رفيع. لكن لا بد من الإقرار بأن ترجمة هذا الشاعر إلى اللغة العربية أمر عسير. وقد اعترف مترجموه في جميع اللغات بهذه الحقيقة. ويقول الروائي الأمريكي بول اوستر بإنه أمضى عشرين عاما وهو يعمل بدأب على ترجمة البعض من قصائده. وكان عليه في نهاية المطاف أن يستعين بشاعرة أمريكية ولدت وعاشت في باريس لكي يتمكن من إنهاء الترجمة على الوجه الذي بدا له لائقا. ومصدر صعوبة الترجمة يعود بالأساس إلى الغموض الذي يحيط بمجمل أعمال مالارميه خصوصا"هيرودياد"، و"رمية نرد".وثمة قولة له يمكن أن تساعدنا على فهم اختياره لهذا المسلك، مسلك الغموض والإبهام في الشعر:”بعدأن عثرت على العدم(من خلال حفره للكلمة)،عثرت على الجميل".هذه القولة هي مفتاح عالمه الشعري. من خلالها هو يبرز لنا كيف أنه خلافا للبرناسيين الذين تأثر بهم في البداية، هو اختار أن يكون الحفر في الكلمة طريقا إلى الشعر الخالص. وخلافا للبرناسيين أيضا، تختفي عنده الفصاحة والإحالات إلى الأساطير القديمة، لتصبح الكلمة هي السيدة الجليلة المشعة وسط الفراغ والعدم مثل النجمة في الظلمة الحالكة. ويعني هذا أن مالارميه ذهب إلى أبعد ما يمكن أن يذهب اليه في مفهومه للشعر وللكتابة عموما محاولا من خلال ذلك بلوغ تلك الأقاصي التي نصاب أمامها بالدوران. وقد أدى الحفر في الكلمات بمالارميه إلى أزمات نفسيّة حادة أثقلت جسده بالمتاعب وبالأمراض مسببة له الشقيقة والأرق. بل وجعلته يفكر أحيانا في الإنتحار. وربما تحت تأثير كل هذا حاول أن يعرّف الشاعر بأنه ذلك "الكائن الذي ينعزل لكي يحفر قبره بنفسه". وفي واحدة من قصائده كتب يقول:”التدمير كان بياتريسيّا"(نسبة إلى بياتريس عشيقة دانتي).وفي مجمل أعماله نحن نجد دائما وأبدا "هذا النفي اليائس للنفس"، وهذه الرغبة الجامحة في "تدمير الذات". وفي تفسيره لهذا المسلك المالارمي، يشير جان بول سارتر إلى أن جنوح صاحب"رمية نرد" إلى الإبهام والغموض يعود إلى العصر الذي عاش فيه. وهو عصر مضطرب ومتقلب بحسب رأيه، فيه انهارت القيم، وتعرضت البورجوازية إلى هزات عنيفة. وكانت نتيجة كل ذلك أن أصبح الأدب يلتهم نفسه بنفسه فلم يعد للشاعر طريق غير الركون، حتى من دون أن يكون واعيا بذلك، إلى الصور االتي تجسّد انهيار الطيقة الإجتماعية التي ينتمي اليها، وفي نفس الوقت هو ضحيتها. وهكذا يصبح غروب الشمس عنده أفضل من صباحات الحياة، والخريف الذابل أجمل من الربيع المزهر. وعنده يصبح الموت في الحياة سابقا للموت الجسدي. أما الناقد المعروف بول بينيشو صاحب كتاب"حسب مالارميه" الصادر عن دار "غاليمار" عام 1995، فيقدم تفاسير أخرى للغموض عند مالارميه. وفي ذلك كتب يقول:”بين عامي 1830 و1851 شهدت فرنسا تحولات مهمة على الصعيد الإجتماعي. وأثناء ارتداده إلى الرجعية، وبروز التيّار المضاد للثورة في داخله، التف المجتمع الفرنسي بشكل ملموس وجليّ على المكتسبات الأدبيّة والشعريّة بالخصوص التي حصل عليها الجيل الأول للحركة الرومنطيقية. وكان ذلك بمثابة الصدمة العنيفة بالنسبة للكتاب والشعراء الذين شعروا بأنهم اصبحوا منبوذين من قبل البورجوازية والشعب، فاقدين لذلك "العالم المثالي" الذي كان هدفهم الأسمى. ورافضين التنازل عن عرشهم، واصلوا كتابة الشعر لكن بنغمة سلبية، لاعنين كلّ ما أصبح خارجا عن إرادتهم مثل الإنسانية والمثل الكبرى والقيم النبيلة وغير ذلك. وقد ذهب بودلير بعيدا في هذا الإتجاه غير أنه فعل ذلك بالأدوات الكبيرة للرومنطيقية التي كانت لا تزال تتمتع بمهابة قوية. المرارة التي سببتها الصدمة الآنفة الذكر أثّرت تأثيرا قويا في مالارميه الذي توصّل مع العديد من معاصريه إلى التشكيك في إمكانية قيام تواصل حقيقي بين شخصين في ما وراء اليومي والعملي الاّ من خلال الكذب. عندئذ قرّر أن يغرق قصائده في صعوبة الإبهام والغموض بهدف أن يخلق من خلال محاولة فك رموزها ومعانيها إمكانية قيام تواصل حقيقي وفعّال". وأعتقد أن مسلك مالارميه هذا في مفهوم الشعر وكتابته يكاد يكون بلا أي تأثير على جل شعرائنا العرب المحدثين الذين يصيغون قصائدهم بحسب ما تقتضيه الأحداث التي تعيشها أوطانهم، ساعين بكل ما أوتوا من جهد إلى أن يكونوا صدى لتلك الأحداث إرضاء للقراء وليس ارضاء للشعر في جوهره. من هنا انعدام الحفر في الكلمات عندهم، وسطحية قصائدهم، والرتابة القاتلة التي تطبعها. و"الثورة " التي يتبجحون بها هي خارج اللغة وليس في داخلها.لذلك نقدر ان نقول بإنهم يتواصلون مع القارئ من خلال الكذب عليه، وليس من خلال الشعر الذي يرجّه ويتيح له اليقظة التي تساعده على كشف خفايا وملابسات واقعه المرير.