&
لم أجد أكثر امتنانا ووفاءً واعترافاً بالجميل من الانتلجنسيا المثقفة اليابانية وهي تُوفي الكتابَ والصحافة الورقية حقها وتُثني على عطائها المعرفي والتثقيفي السالف وتُقدّم وافر شكرها في مراسيم أخيرة لوداعها وتشييعها وإيذانا لفراق قد يكون دائما لا لقاء بعده في سنواتنا القليلة المقبلة فقد منحتنا القراطيس الأولى الكثير من المتعة والفائدة قبلا ولابدّ لها ان تتقاعد لتفسح المجال أمام اللوح الالكتروني لنقرأ ؛ والكيبورد الماثل أمامنا لنكتب ، تلك هي نظرية الحلول حينما تتحول قدسية القراءة والكتابة الى الركوع والسجود والانصياع الحداثوي لعالم الالكترون بعيدا عمّا كنّا نألف من قبل يوم كنّا نردد ونقول : " نون والقلمِ وما يسطرون " .
لنعترف -- مرغمين أم أحراراً -- ان القرطاس الورقي قد بدأت عليه علامات الشيخوخة وقد يصل الى مرحلة الاحتضار لاحقا حتما أمام طغيان الكتابة والقراءة اللوحية ... وحديثا &بدأنا نقراً على لوح المفاتيح مثلما أطبع الان على الشاشة الماثلة امامي وأنقر بأصابعي لإكمال هذه المقالة &تاركا الورق جانبا يعلوه التراب بعد طول استغناء عنه يقارب العقد من السنوات ، ولا أخفي وانا الرجل الهرم الذي يقترب من السبعين بتّ هائما بالقراءة الالكترونية وأتلذذ بها كما الكتابة الالكترونية ايضاً وتمرّنت عليها طواعيةً واستحباباً وأسعى الى لملمة وانتقاء ما استسيغه من عالم النت لأحصل على مبتغاي من الكتب الوفيرة واعمل على تحميلها وقرائتها بنهم شديد في مشيبي قد يفوق كثيرا ولعي بالكتاب الورقي والصحيفة اليومية ؛ فما حاجتي الى الخروج والسعي في الزحام والولوج بين المركبات والسابلة حتى أصل الى المكتبة لأقتني الكتاب والصحيفة التي أريد بينما في حوزتي الكتاب والصحيفة لتظهر قدّامي بنقرة او نقرتين على كيبورد الحاسب الآلي وأنا منزوٍ في مكتبة بيتي أو مسترخٍ على سريري .
فالكتاب والصحافة الورقية مثل زوجة حميمة وافرة الجمال ، مفعمة بالإخلاص ، واسعة الافق في عقلها رافقتك مديد عمرٍ مليء بالبهجة والاستقرار ومنحتك السعادة والهدأة والنسل الجميل الممتع بنيناً وبناتٍ لتهنأ بصحبتهم أمَداً حتى عجزتْ رفيقة الحياة في أواخر مشوار العمر ان تُعطي بمثل ما أعطتْـه قبلا فكان لابدّ ان تبحث عن زوجة فتية وفاتنة معطاء وسهلة المنال لتقضي معها بقية سنوات حياتك سرورا ؛ مع اننا لاننسى متعة الامس يوم كنّا نتلهف شوقا الى الصحيفة الورقية وجرائد الصباح وكانت أطيب إفطار صباحي للعقل تمسكها بيديك الاثنتين تعلّقاً وانشدادا لها وصحبة الكتاب في أول الليل وقد تطول تلك الصحبة حتى أوائل السحر ناسياً نفسك مع هذا الأنيس السمير غير الملول .
وكم أحسن المثقفون والصحفيون اليابانيون صنعا في بادرة اكثر من رائعة ومذهلة في ردّ الجميل للطبيعة ومنابتها من الشجر الواهب للورق ؛ ففي الاونة الاخيرة عزم بعض مثقفي طوكيو من الادباء والصحفيين العاملين في مؤسسة إعلامية عريقة واسعة الانتشار مثل " مانيتشي شيمبون " على منجز غاية في الرقيّ والثناء حينما أصدروا صحيفتهم الورقية المسماة &(Main ichi ) ولكن بصناعة واسلوب أخلاقي عالٍ في التكريم والاعتزاز للطبيعة وأشجارها التي وهبتْـنا ردحا طويلا هذا الكم الهائل من المعرفة والعلوم والآداب التي رسخت في الورق ونهلت منها عقولنا ذلك الغذاء المعرفي الهائل وحسّنت من طبيعة حياتنا وأوسعت من آفاق الذهن البشري وأمتعته بكل المعارف والفن والأدب قرونا عديدة .
اختارت الصحيفة " المانيتشي " الشهيرة التي تطبع يوميا ما يقارب الاربع ملايين نسخة تنفد وتقرأ بعناية وتركيز من قبل الشعب الياباني في بعض أعدادها المتميزة عيّنات منتقاة &من بذور الورود الفائقة الصغر التي لاتكاد ترى مخلوطةً في رقائق ورقها المطبوع مع مادة الحبر ؛ وهذه الأحبار هي الأخرى ليست من نوع &الرصاص الضار المعتاد في رسم الحروف والكلمات والصور في الجرائد العادية المتعارف عليها ؛ انما هو في معظمه ورقٌ وسماد عضوي فعّال للتربة ممزوجا مع البذور بحيث لا يشعر القارئ بوجودها في حيثيات الحبر او تزعج رؤيته أثناء المطالعة والتصفّح .
وقد أوصى العاملون على إصدار الصحيفة القرّاءَ بمسعى منهم على الإيفاء للورق المستخرج من خشب الغابات &ونشر الجمال معاً على ضرورة تفتيت وتمزيق الورق قطعا صغيرة حالما ينتهي القارئ من تصفّحها منها ليقوم بعدها بطمره في ايّ مكان من حديقة المنزل او الساحات الخضر المجاورة للبيت او اية بقعة خضراء او وعاء او مزهرية أو حتى آنية صغيرة من الأواني في شرفات وبالكونات الشقق تحتوي تربة لتنبت بعدها زهورا جميلة تسرّ الانظار وتبهج النفوس وتعطّر الاجواء .
كل ذلك من اجل تقديم شيء من الوفاء لهذه الارض التي غذت عقولنا بعطائها الورقي مثلما غذت أجسامنا بثمارها الناتجة من أشجارها ، وعطورها التي انتشت بها أنفاسنا ؛ تلك الكائنات الحية التي شاركتنا العيش في هذه المعمورة ووهبتنا الكثير مما لايحصى ولابأس ان نُبدي قليلا من الامتنان والشكر قبل ان نودّع عالم الورق وندير أنظارنا الى عالم الالواح الحاسوبية ونُلغي وضع طبعاتنا وحروفنا ورقيّا كالسابق لنرسمها على الشاشة ؛ بدلا من ان نرفع معاولنا وفؤوسنا لنطيح بأشجار الغابات ونفرمها في آلات معامل الورق لنحصل على رقائق الورق في رزمٍ هائلة ونلوّثها بالرصاص السام .
فلندع الغابات تستعيد عافيتها وتُكثر من اخضرارها ونشرها واتساعها ونقلل من حالة التصحّر كي تملأ الأنفاس انشراحا وتبعث أوكسجين الحياة طالما لقينا البديل وظفرنا بالأصلح والاقوم والأحدث والأسرع لنشر الكتاب وتعميم الوعي والثقافة وتقديمها بلمح البصر بين ايدينا ، وبنفس الوقت لاننسى من ايقظ فينا العقل وغذّاه وطهّر الروح وشذّبها منذ ان شببنا على حب القراءة والكتابة .
اطلق على تلك الصحيفة اسم &الجريدة الخضراء " Green Newspaper " &وحقّ لها هذا الاسم المتميّز ، أليس انها تعمل على نشر الاخضرار والجمال والانشراح النفسي ؟؟ .
هكذا يعمل الانسان المثقف الحقيقي على تدوير نفايات الورق وتحويلها الى بقع خضر ملوّنة بالورد وفي نفس الوقت يُجزي الطبيعة خيرا ويقدّم شكره لها لانها وهبت لنا الورق من أشجارها فكانت الكتب والجرائد والمجلات والمناهج الدراسية في فصول مدارسنا بكل مراحلها غذاءً روحيا وعقليا وتشذيبا لأخلاقيتنا وتنويرا لأذهاننا وعرفنا الفرق الكبير بين الذين يعلمون والذين لايعلمون والذين أوتوا العلم درجات وبين التعتيم والتنوير .
فما جزاء الاحسان الاّ الاحسان ولو كان ضئيلا امام كلّ هذا الغنى الثقافي والمعرفي الذي نهلنا منه سابقا من الكتاب الورقي كما ننهل الان من الكتاب الالكتروني .
&
&