(2/1)
&
أعلن مؤخرا عن القائمة القصيرة للمشاريع المعمارية المرشحة لجائزة "الاغا خان للعمارة" في دورتها الثالثة عشر (2014-2016)، وقد وصل عدد المشاريع في تلك القائمة الى 19 مشروع في مجالات معمارية وعمرانية عديدة، من أصل 348 مشروعا تقدم مصمميها للاشتراك في الجائزة، التي تحظى باهتمام مهني واسع. سيتم اختيار خمسة مشاريع من تلك القائمة القصيرة، من قبل لجنة التحكيم المشكلة حديثا من تسعة أعضاء معماريين ومهتمين بالعمارة، لتعلن في نوفمبر القادم كجوائز فائزة بهذه الدورة. جدير بالذكر ان مجموع قيمة تلك الجوائز يصل الى مليون دولار امريكي، ستقسم بالتساوي على الفائزين الخمسة. من ضمن المشاريع في القائمة القصيرة الموزعة في مواقع بلدان مختلفة، هناك ستة مشاريع في المنطقة العربية، وهي: الاكاديمية الملكية لحماية البيئة في عجلون/ الأردن، ومعهد عصام فارس، بيروت/ لبنان، ومدرسة كلميم للتكنولوجيا، كلميم/ المغرب، ومحطة قطار الدار البيضاء، الدار البيضاء / المغرب، ومكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض/ السعودية، وبرج الدوحة، الدوحة/ قطر.&
سأتناول، هنا، مشروعين هما مبنى الاكاديمية لحماية البيئة في عجلون/ الاردن، الذي اعتبره، شخصيا، مشروعا مميزا، والآخر مشروع "متنزه سوبركيلين" في كوبنهاغن/ الدانمرك، لكونه قريب من محل سكناي، وزرته مراراً وصورته تكراراً، خصوصاً بعد إعلانه ضمن القائمة القصيرة. بالإضافة، طبعاً، الى سمعة مصممه المدوية، الآن، محليا ودوليا. ان تناولي لهذين المشروعين، لا يعني البتة، بان المشاريع الأخرى غير جديرة بالانتباه او الاهتمام. انه محض قرار ذاتي، لا يمكن تحميله او تفسيره باي موقف مسبق تجاه مصممي المشروعين، فانا لا اعرفهما كما لا توجد اية علاقة شخصية تربطني بهما. عدا أنى قابلت "عمار خماش"، معمار الاكاديمية، عرضاً، عندما صادفه صديقي المعمار بلال حماد، ذات صباح "عماني"، ودعاه لمشاركتنا مع صديقي المعمار د. احسان فتحي في زيارتنا لقصر "الطوبة" الاثري، الواقع في بادية الاردن، اثناء انشغالي، يومذاك، في اعداد كتابي عن "القصور الاموية"؛ وقد قبل الدعوة سريعا كدليل بارع في معرفة خفايا "طرق" الوصول الى القصر المواربة والمظللة في آن.&
يقع المبنى الجديد للأكاديمية الملكية لحماية الطبيعة في محمية غابات عجلون، عند مقلع حجارة مهجور. وهو اختيار موقعي موفق، مقترح من قبل المعمار ذاته، معارضا بذلك طلب بعض المسؤولين، الذين أبدوا رغبة في ان يكون مجمع مباني الاكاديمية، ضمن الأراضي الخاصة بالمحمية وكان شفيع المعمار في تقبل توصيته تلك، فكرته الداعية الى استثمار أجزاء الطبيعة التي سبق وان تعرضت للضرر، عوضاً عن "حجز" موقع جديد في أراضي المحمية. تشكل مجموعة احياز مجمع الاكاديمية شكلا على حرف L اللاتيني. وهذه الاحياز، وفقا للمنهاج التصميمي، تتضمن، قسمين وظيفين مختلفين، الأول منهما، يقع في الجزء الايسر من المبنى، خاص بعمل واهداف ونشاط الاكاديمية، ويتضمن احياز ادارية، وفراغات مخصصة للدرس وقاعات اجتماعات ومناقشات وكذلك صفوف، مع ملحقاتها الخدمية. اما القسم الآخر، الواقع على يمين الداخل، ففضاءاته، تخدم مطعم فاخر، واحياز لبيع المنتوجات الحرفية والتقليدية، التي يمكن بمواردها تغطية جزء من تكاليف مشاريع الاكاديمية. استخدم الحجر، كمادة انشائية رئيسية مع الخرسانة المسلحة في تنفيذ المبنى.&
يتم الوصول الى المبنى من خلال جسر حجري محمول على عقد خرساني (يقال انه الاوسع باعاً في المملكة). والجسر يصل بين كتلة المبنى والطرف الآخر من الجبل، الذي اقتلعت من سفحه، يوما ما، حجارته، ونشأ بدلا عنها خندقا عميقا. ينتهي طرف الجسر، اذاً، عند المدخل الرئيس للمبنى الذي ينظم الحركة داخل المجمع، مشكلاً، في الوقت نفسه، نقطة تلاقي وظائف المبنى المتنوعة. &
يعرف "عمار خماش" جيداً، وهو في غمرة عمله التصميمي لمبنى الاكاديمية، بانه يتعامل بشكل أساس مع "حجر"، إن كان ذلك فيما يخص طبيعة "الموقع الحجري"، او نوعية "المادة الحجرية"، او شكل "الكتلة الحجرية"؛ وما يترتب عن كل ذلك من مزايا وخصائص. فهو في محاولته لتسقيط وتنظيم فراغات مخطط الاكاديمية، يتوق ان يكون فعله التصميمي متسقا مع خاصية الموقع ومتماشياً مع تضاريسه، هي المتشكلة من خلال عقود عن اعمال القطع والاستئصال المستمرين. بمعنى آخر، تعاطى المعمار مع الموقع المختار بكونه "لقية" تصميمية، قادرة لان تسهم في تعيين تخوم مساقط المبنى وتقرر حدودها. &فالمعمار ينزع الى إيصال مشروعه حد الاندماج الكامل والالتحام التام مع طبيعة الموقع، ليشكلا الاثنان: المبنى، والموقع وحدة متجانسة ومتلاحمة في آن، تنم عن ايماءة احترام لخصوصية المكان من جهة، ومن جهة آخرى تدلل على نوعية وظيفة المبنى الرئيسية، كجهة مهتمة بالبيئة وشواهدها. وهو بهذا، بفعله التصميمي المميز، يذكرنا بمقاربة "لويس كان" (1901-1974)، الداعية الى النفاذ عميقا في كنه المشروع التصميمي. والتماهي مع كينونته، لجهة إدراك جوهر "المبني" الحقيقي والوعي التام بماهيته. وفي اعتقاد "كان"، فان مهمة المصمم، تكمن هنا، في مقدرته على "تصور" النموذج البنائي البدئي، ومن ثم الشروع في العملية التصميمية. وعلى المعمار، في النتيجة، ان يستوعب، وفقا لـ "كان" دائماً، مغزى ومشيئة "ماذا يريد المبنى ان يكون" بعيداً عن سطوة قرارات المصمم الصارمة والمتزمتة. وقد وجد هذا الاندماج، وهذا التشاكل والالتحام مع خصوصية الموقع، صداه ايضاً، في النأي المقصود والمتعمد عن مبدأ العمارة الشائع (او بالأحرى الذي شاع كثيراً) في ان "الشكل يتبع المضمون" Form follows function. اذ يحرص المعمار، هنا، في مبنى الاكاديمية بعجلون، ان تكون معالجة واجهة مبناه الرئيسية (الواجهة الجنوبية الغربية)، ذات طبيعة يتعذر بها معرفة خصوصية وظيفة المبنى وطبيعة فراغاته، جراء "الحجاب" الصخري، الذي البسه المعمار للواجهة، سعيا منه الى تأكيد نوع من المعالجة الشكلية، التي يشي حضورها باندماج تام، ما بين "ستارة" الواجهة المختلقة، وخصوصية المكان ذات الطبيعة الحجرية. وطالما نحن لا نزال عند الواجهة، يتعين التذكير، بان مصمم المبنى يتعاطى مع فتحات نوافذها المقننة، المرسومة بحرص واهتمام كبيرين على سطحها، ليس بدافع وظيفي بحت، بل يرتقي بها لتكون أداة مؤثرة في تأكيد "فنية" الواجهة واثراء جمالياتها؛ لافتاً انظارنا، بهذا الحل، الى تنوع ثقافة المصمم واهتماماته التي لا تنحصر في مهنة العمارة فحسب، وانما بحرفته كفنان، و"مصور" ايضاً.&
لا يتوانى "عمار خماش" في إضافة خصائص جديدة لمهام الانارة والاضاءة في مبناه. فهو، هنا، ايضاً، يدفع بتلك المهام، لجهة الارتقاء بها من منسوب واجبها "النفعي" وضروريتها الوظيفية والبيئية، الى كونها وسيلة ناجعة بمستو عال، لجهة تأكيد "دراما" الحدث التصميمي، الذي يتوق المعمار ان يكون حاضراً بقوة في الحلول التكوينية لمبناه. ثمة شقوق طولية وغائرة، يرسمها المصمم بعناية في الواجهة. انها بمثابة "ملاقف" انارة تضئ الاحياز الواقعة خلف "حجاب" الواجهة. &لكن "الصدع" المضيء، الذي ابتدعه داخل وسط مبناه، كان، في اعتقادي، بمثابة "ضربة" التكوين وعنصره اللافت، المثير للاهتمام. اذ يستدعي المعمار في معالجاته تلك، بفعل "تناصي"Intertextuality &مبهج وذكي في آن، الشق الصدعي لـ "سيق" البترا الشهير. لكنه، هنا، في عجلون، يبدو ذلك الشق "مؤولا" بصورة مختلفة، بيد انه ما فتئ يبقى مثيرا ومدهشاً، جراء اسلوب رصف "صفوف" الحجر الناتئ بصيغة متدرجة عن مستوى صف ما هو اسفلها، بحيث يغدو النور "المسكوب" من الأعلى وكأنه "شلال" ضوئي، مضفيا، بالتالي، على "انترير" المبنى لوحة بصرية فاتنة ومبهرة، لم تكن متوقعة!&
اعتمد المعمار في الحلول التصميمية لمبناه، على تشغيل عنصر "التضاد"Contrast &التكويني، بأقصى حالاته، ساعيا الى "استنفاذ" جميع طاقته الكامنة. فهذا العنصر يحضر، تارة، في نسق صياغة المعالجات التصميمية للواجهات، من حيث غلقها في الجهة الجنوبية الغربية، و"فتحها" نحو الغابة في الجهة الشرقية الشمالية. وتارة أخرى، يتجلى في انتظام و"انضباط" معالجة الأقسام السفلية داخل المبنى، وتشوشها و"ضجيجها" في الأقسام العلوية منها؛ ومرة ثالثة، يتواجد عبر معاكسة رهافة اعمال التشطيبات الداخلية ودقتها العالية، مع خشونة و"بروتالية"Brutality &أسلوب استخدام الحجر في الواجهات الخارجية. كما يحضر، ايضاً، ما بين عمومية ثبات الكتل البنائية و"هجوعها" الساكن، وبين ديناميكية التطليعة الناتئة "الكابولية"، لأقسام المبنى في نهايات الجهة الشمالية منه، هيئتها المتوثبة، المفعمة بالحركة والاثارة، تذكرنا، بمبنى "عصام فارس" في الجامعة الامريكية ببيروت والمصمم من قبل زهاء حديد، المشارك، هو الاخر، في مشاريع القائمة القصيرة، لنيل الجائزة المرموقة.
وفي العموم، فان مبنى الاكاديمية في عجلون، بلغته المعمارية المميزة، وطبيعة حلوله التصميمية المعبرة، شكّل، في اعتقادنا، إضافة لافته الى البيئة المبنية المحلية، مثلما يمكن اعتبار ظهوره في المشهد، كحدث تصميمي مثير، في منتج العمارة الأردنية والإقليمية على حدٍ سواء.
&
د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي
&