&(2-2)
تنبع أهمية مشروع "سوبر كيلين" Superkilen في العاصمة الدانمركية –كوبنهاغن، المصطفى ضمن مشاريع القائمة القصيرة لجائزة "الاغا خان للعمارة" لسنة 2016 )، والتي تحدثنا، قبل فترة، عن احد مشاريع تلك القائمة في ايلاف، باعتباره حدثاً عمرانيا مهتماً في تحسين بيئة الفضاءات الخارجية بالحي الواقع به؛ من جهة، ومن جهة آخرى، راجع الى "مقاربة" حل ذلك الحدث العمراني، في ضوء إيلاء اهتمام مضاف للإشكالية "الاثنية"، وحضور "الآخر" المختلف في رسم معالم ذلك الحل. بالإضافة، طبعاً، الى سمعة احد مصمميه المدوية، وهو "بياغه انغيلس" &Bjarke Ingels مؤسس مكتب "بيغ" والمعمار الرئيس فيه، والذي يعتبر، الآن، أحد نجوم العمارة الدانمركية، و"يروج" له على نطاق واسع، بكونه احد المعماريين العالمين الواعدين. وهذا المشروع الخاص "بتنظيم الفضاءات الخارجية" <اللاندسكيب> Landscape، يقع في حيّ "نوبغو" Nørrebro، أكثر احياء العاصمة الدانمركية تنوعاً اثنيناً وثقافياً، وهو يمتد بطول حوالي 750 متراً، ويغطي مساحة تقدر بـ 30 إلف متر مربع، ويخترقه "مسار" للدراجات الهوائية: وسيلة النقل الاثيرة لسكان العاصمة، واداة الاستجمام والترفيه لديهم. وفكرة المشروع أساسا، تكمن في العمل على تحسين مستوى حالة "حي نوبغو"، والارتقاء به الى مستويات عالية من التطوير الحضري، ليكون نموذجا وقدوة في إنماء احياء المدن الأخرى. &وقد أسهم في اعداد تصاميم المشروع، لصالح بلدية كوبنهاغن، مكاتب استشارية دانمركية بالاشتراك مع المانية، وهم: مكتب "بيغ" BIG الدانمركي، ومكتب "توبوتيك1" Topotek1 الألماني المختص بـ "اللاندسكيب"، ومكتب "سوبرفليكس" Superflex مجموعة الفنانين الدانمركيين. تم افتتاح المشروع رسميا في حزيران (يوليو) 2012. وقد كلف 58 مليون كرونا دانمركية (حوالي 10 مليون دولار امريكي).&
يشمل مشروع "سوبر كيلين" (وتعني حرفيا بالدانمركي "الوتد الضخم"، او "الاسفين العظيم")، على ثلاثة اقسام محددة، تشكل "المسار" الكلي للتصميم ومفرداته الاساسية. ان وجودها المعبر عن وظائف متنوعة، يخدم سكنة وزوار الاحياء المتاخمة المطلة من الجانبين على هذا المسار. اذ يبدأ المشروع "بالمنطقة الحمراء"، ثم تليها منطقة "المربع الأسود"، وينتهي أخيرا "بالمنطقة الخضراء". وإذ تم صبغ المنطقة الحمراء باللون الأحمر الساطع، والبرتقالي وكذلك باللون القرنفلي، تلك الألوان التي تشي بالتسلية والاستجمام وبأسلوب الحياة العصرية، فان منطقة "المربع الأسود"، التي عدت بمثابة "ردهة" الحي، و"غرفة معيشته"، قد خصصت الى لقاءات سكنة الحي اليومية، ومكان تجمعهم حول بركة "النافورة المغربية"، او عند مصاطب الجلوس المنتشرة في الموقع، او تحت "أشجار جوز الهند" المستوردة من الصين! حيث يمكن، ايضاً، إقامة حفلات "شواء اللحوم" في الهواء الطلق. &في حين عبّرت "المنطقة الخضراء"، حرفيا، عن المساحات الخضراء المغطية لمسطحات واسعة في هذه المنطقة، وعديد الأشجار والمزروعات التي شتلت خصيصا في الموقع، والتي يمكن فيها اقامة الفعاليات الرياضية، وممارسة التنزه سيراً على الاقدام، والتفسح مع الحيوانات الاليفة، بالإضافة الى وجود تلال التزحلق فيها أيضا. &
ما يميز مشروع "سوبر كيلين"، هو الحضور المكثف لعناصر ما يعرف بـ "اثاث المدينة" City furniture، وهي تلك العناصر المتنوعة وظيفياً ومقاسا، المنتشرة عادة في فضاءات الموقع، كالمصاطب، واعمدة الانارة، ولوحات الإعلان، ونوافير وبرك مائية، ومقاعد جلوس، واشكال مختلفة خاصة بلعب الأطفال وتسليتهم، وصناديق البريد وحتى حاويات القمامة، بالإضافة الى اغطية فتحات المجاري وما شاكل ذلك. بيد ان الامر المثير في ذلك الحضور الواسع والمتنوع لهذا "الأثاث"، في "سوبر كيلين"، هو "استيرادها" خصيصا الى الموقع من امكنة في دول مختلفة، او إعادة تصميمها، بحيث يستدعي شكلها، ذات الاشكال المنتشرة والمستخدمة في بلدان عديدة، لتكون جزءاً من معجم ذلك الأثاث المديني الموزع في الموقع الكوبنهاغني. &وقد وضع الى جانب تلك القطع "الاثاثية" قطع معدنية مكتوب عليها ما تمثله تلك القطع واسم البلد الذي اتت منه، وبلغته الاصلية، إضافة الى اللغة الدانمركية. فهناك على سبيل المثال ارجوحة من العراق، ومصاطب من البرازيل والبرتغال وتونس، ونوافير من المغرب، وصناديق بريد من إنكلترة، إضافة الى إشارات مشغولة بالإنارة "النيونية" من روسيا وقطر، وحتى اغطية فتحات مجاري، جلبت من تنزانيا، ومن غدانسك في بولونيا، ومن باريس بفرنسا، وهناك، ايضاً، لوحة معدنية ظليه "سيلويتية" Silhouette &لثور اسباني. وفي العموم فثمة 108 قطعة اثاث، واعمال فنية متنوعة، يدلل وجودها الى التنوع الاثني لسكنة الاحياء المجاورة للمسار، والتي عدت عدد جنسياتها بحوالي 60 جنسية. وكل هذه الاعمال &يمكن للمرء ان يشاهدها موزعة في امكنة مختلفة من فضاءات المشروع، مؤدية واجبها الوظيفي، ومانحة المكان، في الوقت عينه، نكهة جمالية خاصة، نابعة من فرادة تلك الاشكال، وابتعادها عن المألوف والدارج.&
وقبل الحديث عن المزايا التصميمية لمشروع "سوبر كيلين" الكوبنهاغني، اود ان استثمر هذه المناسبة لتقديم المعمار الأول ومؤسس مكتب "بيغ": المشارك الرئيس في اعداد وتصميم هذا المشروع، وهو المعمار Bjarke Ingels &"بياغه انغيلس" (وفقاً للتلفظ الدانمركي) &الى القارئ العربي. فهو بما انجز، وبما صمم، وبما يمتلك من رؤى، جدير مهنياً وثقافياً بهذا التقديم والاشارة.&
ولد "بياغه انغيلس" في كوبنهاغن سنة 1974، ودرس العمارة في مدرسة العمارة في كوبنهاغن سنة 1993، وتخرج منها سنة 1999. بعد ان قضى سنة واحدة في مدرسة العمارة في برشلونة بإسبانيا. وعلى خطى "زهاء حديد" المعمارة العالمية الفذة ذات الأصول العراقية، عمل مع "ريم كولهاس" في مكتبه "متروبوليتن" في نوتردام بهولندا، ما بين 1998-2001. بعد ذلك ترك المكتب الهولندي، ورجع الى كوبنهاغن واسس مع صديقه البلجيكي وزميله في مكتب "متروبوليتن" <يولين دي سميدت" مكتبا في كوبنهاغن هو مكتب "بلوت" PLOT، الذي سرعان ما حازت تصاميمه على سمعة محلية ودولية عالية. كما منحت تصاميم المكتب "جائزة الأسد الذهبي" من بينالي البندقية سنة 2004. وبعد ان تم فض مكتب "بلوت" وحله سنة 2005، أعاد "بياغه انغيلس" تأسيس مكتب اخر في بداية 2006، باسم "مجموعة بياغة انغيلس"Bjarke Ingels Group (BIG) ، وهو المكتب الذي اشتهر، ايضاً عالميا، ويعمل به الان حوالي 300 معمار ومنتسب، وله فرع في نيويورك بأمريكا، وصمم مشاريع مميزة، بضمنها المشروع الاسكاني "اسكان 8" في كوبنهاغن (2006-10)، وجناح الدانمرك في معرض "اكسبو شنغهاي" بالصين (2010)، ومبنى بلدية تالين في استونيا (2009)، ومبنى "W57" في نيويورك (2010)، وبرج فونيكس للرصد"، في فونكس /اريزونا- أمريكا (2012)، وغيرها من المشاريع التي تحظى الان باهتمام الوسط المهني والثقافي. كما نال مكتب "بيغ" على جوائز محلية وعالمية عديدة، وصدر عن نتاجه التصميمي كتب ودراسات خاصة.&
وكمعمار مجد، يهتم "بياغه انيغلس" في تبيان ادراكه وتقبله لمعنى "العمارة وفهمها الخاص. ويتحدث عن فلسفته التصميمية قائلا "...بان حقل العمارة كان دائما محط تجاذب، تاريخياً، بين اتجاهين متطرفين ومبالغ بهما. فمن جهة، هناك، الاتجاه الطليعي الحافل بالأفكار المهوسة، المتولدة عن الفلسفة، والصوفية والافتنان بإمكانات الكمبيوتر لجهة الحصول على تصورات "فنطازيه". وهي بشكل عام، تكون بعيدة عن الواقع، والتي أخفقت في الكثير من نماذجها بان تكون امراً لافتاً مثيرا للفضول. ومن جهة أخرى، ثمة اعمال رصينة، تعتمد على المنطق بصورة واضحة، بيد انها بدت وكأنها "علب" تثير الملل، حتى وان كانت ذات معايير عالية. ويبدو ان العمارة، تمترست في هذين المقاربتين المتشابهتين وغير المثمرتين: فإما "يوتوبيا" ساذجة، واما وظيفية متحجرة. نحن نعتقد (والكلام دائما لـ "بياغه انيغلس")، بان ثمة طريقا ثالثاً، يمكن له ان يدق اسفينا فيما بين ذينك المتضادين المتعاكسين. وبالإمكان اجراء مداخلة بسيطة ما بين الاثنين، وتبقى تلك المداخلة محتفظة بخصوبتها وتأثيراتها. فالعمارة البرغماتية "الطوباوية"، التي تعير أهمية خاصة لإبداع امكنة بالغة الكمال ومراعية للشأن الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، يمكن لها ان تكون هدفا عمليا قابلا للتحقيق".
وعودة، مرة أخرى، الى مشروع "سوبركيلين" الكوبنهاغني. اذ ينزع مصممو المشروع الى ان تكون ثمة إضافة ملموسة وذات أهمية معتبرة في صميم المعالجة الفضائية –التكونية للمشروع. وهذه الإضافة، هي المداخلة "الاثنية" المتنوعة وتمظهراتها الفنية. فليس الامر، هنا، يقتصر على إيجاد حلول منطقية او وظيفية بحته، بقدر ما يمكن ان تكون تلك الحلول ذات جدوى في اظهار التنوع الاثني، والاحتفاء بالمكان الجديد والاندماج به. بالطبع، يراد ان يكون المشروع داعماً للتنوع، فهو في الحقيقة، بمثابة معرض عالمي للعناصر المؤثثة للمكان الحضري، وللأشياء ذات الاستخدامات اليومية. ويبدو المشروع/ البارك وكأنه مجموعة "سوريالية" تسعى وراء عكس الطبيعة الحقيقية للحي المحلي، أكثر منه تبيان الصورة الساكنة والدائمية لحي دانمركي متجانس. وبما ان المصممين يعوا بان المشروع الذي هو بحوزتهم، ما هو الا "بارك/ حديقة"، فان ذلك يمنحهم الحق في تبني رؤى خاصة، متعلقة في مجمل الممارسات والتجارب التي شهدتها الممارسة العالمية &لتاريخ الحدائق. فعلى غرار الصينيين، على سبيل المثال، الذين يتمثلون سلاسل الجبال الشاهقة بأشكال مشغولة بالصخور الصغيرة، وكذلك اليابانيين الذين بمقدورهم ان يدللوا على أمواج البحر بالحصى المتكررة، او كما يرمز الى الاثار اليونانية القديمة، عند صناع الحدائق الإنكليزية، عندما توضع نسخ منها في فضاءات تلك الحدائق، فان "سوبر كيلين" وبما يمثله عديد الرموز الحافل بها فضاءاته، &يبقى يعتبر نسخة حضرية معاصرة لمفهوم الحديقة العالمية!&
لكن السؤال يبقى قائما، فيما إذا كانت تلك القطع الدالة على "الأثاث" الحضري المتنوعة و... الغرائبية، يمكن لها ان تلعب دوراً هاماً في تكريس الإحساس بالاندماج مع "المكان" الجديد؟ بل ان الأهم في كل ذلك، هو مقدار صدقية المقاربة المعتمدة على "لاستنساخ النصي" لأشكال القطع المتواجدة في المشروع، من دون أي جهد تصميمي في تأويل تلك الاشكال او تفسيرها، ومن ثم إعادة توظيفها في مواقعها بفضاءات البارك، لتبدو كإضافة معرفية، يمكن لها ان تثري الثقافة المحلية بتنويعات تصميميه ذات مرجعيات مختلفة ومغايرة. ومع هذا، تبقى تجربة تصميم "سوبر كيلين" وما تمثله عناصر الأثاث الحضري من دلالات ثقافية تحتفي بالآخر وتسعى وراء فهمه وتقديمه، كما هو، من غير أوهام او تصورات خادعة، تبقى تمثل تجربة رائدة، جديرة بالاهتمام ومرحباً بها. ولعل الصور المرافقة لهذا المداخلة، التي التقطتها للمشروع، مؤخرا، يمكن لها ان تظهر تلك الأهمية التصميمية.&

معمار وأكاديمي