&
&
يبقى المعمار الروسي/ السوفيتي، "قنسطنطين ميلنيكوف" (1974 -1890)، معماراً مثيراً وخلافياً. ورغم مرور سنين عديدة، منذ ان بدأ نشاطه التصميمي في بدء العشرينات، فانه ما برح ينظر اليه، والى نتاجه المعماري برؤى مختلفة، لم تكن دوما متماثلة، كما لم تكن ايضاً موضوعية لدرجة كافية في الكثير منها. وهذا المعمار المتميز: "سولو" Solo المرحلة السوفيتية المرموق، كان على الدوام ولحين وفاته يعتبر معمارا فريدا ومتفرداً، لجهة خصوصية نتاجه المعماري الاستثنائي، الذي لا تشبه تصاميمه الواحد الآخر! عندما تعرفت عليه في مطلع السبعينات من القرن الماضي، في أروقة "معهدنا": "معهد موسكو المعماري" الذي أكملت دراستي الأولية والعليا فيه، كان لا يزال واثقا بنفسه ومعتدا بما انجز، مع انه حُورب بصورة شنيعة، وبالتأكيد حُورب بصورة غير مهنية، وغير عادلة وبدت لي أيضا غير مفهومة، خصوصا، وان تلك "الحرب" بدؤها زملاءه المعماريون اولاً، قبل ان تحاربه "الماكنة الستالينية" الرهيبة في الثلاثينات، التي وجدت فيه "شكلانياً" &بامتياز، يقف بالضد، كما رأت، من تلك الرؤى المهنية المحددة، هي التي وضعت لتسير على "سكتها" العمارة السوفياتية وقتها، من دون عقبات، او اعتراضات، تيمناً، وانتصاراً، ودعماً للآحادية الايدلوجية، وتكريساً لها. وقد شن أنصار تلك الرؤى ومشايعوها حرباً ضروساً عليه، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ليتم في الأخير، بنهاية الثلاثينات، "نزع" كل شهاداته المهنية، واعتباره معماراً "مرتدا" لا يمكن الوثوق به، وبالتالي حُرم من أي عمل مهني، يمكن له ان يقوم به، ليدرأ عنه وعن عائلته غول الجوع والبطالة!&
في تلك السنين البعيدة، اذكر انه، يوما ما، دعاني الرجل الي "بيته". وكلمة "بيته"، تلك، ادهشتني وأثارت فضولي، اذ بدت لي غريبة وغير عادية، في تقاليد المجتمع السوفياتي، وقتذاك، الذي تسكن الغالبية (الغالبية العظمى) فيه في شقق مبنية من قبل الدولة. لكني سرعان ما تذكرت بان "دارته" تلك، ومحل سكناه، هي احدى روائع العمارة الطليعية السوفيتية في العشرينات، وربما احدى روائع عمارة الحداثة العالمية أيضا. وقد اشتغل عليها طويلا، ونفذها بصيغة تثير الدهشة، في تلك السنين العشرينية، التي نأت الممارسة المعمارية السوفيتية عن اعداد تصاميم خاصة او منفردة للسكن. كنت وقتها في غاية السرور لزيارة "الدارة" ورؤية فضاءاتها وكيفية عملها كما أرادها المعمار الذي شرح لي كثير من تفاصيلها وتجاوز معوقات تنفيذها. لازلت، لحين الوقت الحاضر، أتذكر ذلك اللقاء وتلك الحميمية التي غمرني بها المعمار الكبير، هو وافراد عائلته، بضمنهم ابنه الرسام المقتدر، والمخلص لعمله، وفنه ... والى والده!&
ودارة ميلنيكوف (1927-1929)، وهي أيضا استديو عمله، الواقعة في أحد ازقة حي "آربات" الموسكوفي الفاخر، في وسط العاصمة الروسية، تعتبر الان من كنوز منتج عمارة الحداثة العالمية. وهي بذلك تستقطب زوارا كثراً ولاسيما المعماريين منهم. يعتمد الحل التكويني –الفضائي للدارة على "تداخل" اسطوانتين، الواحدة في الاخرى الى ثلث قطرهما، منتجاً هذا التداخل شكلا يماثل الرقم (8)، والذي "حُفرت" على سطحه فتحات نوافذ عديدة تشبه اشكالها خلايا النحل، التي باستطاعتها ان تنير احياز المبنى بإنارة خاصة وغير عادية؛ بيد انها دائما كفؤة وعلى جانب وظيفي عال. وهاتان الاسطوانتان ذات ارتفاع متباين (8-11 مترا)، استطاع المعمار بهما ان ينشأ منظومة من الاحياز داخلهما، تلبي متطلبات السكن المريح والعمل الإبداعي فيهما. وعن طبيعة وخصوصية تلك الاحياز التي حصل عليها المعمار، يكتب ميلنيكوف ذاته عنهما ما يلي"... ثمة طوابق عديدة ومتنوعة في هذا البيت. والمرء يتساءل، كيف قدر لشكل واحد موحد، هو الذي يؤلف جوهر "عمارة" منزلنا، ان يقدم كل تلك الاحياز المختلفة والثرية؟". وعمارة تلك "الدارة"، ليست فقط غير مسبوقة في هيئتها، وفي نوعية احيازها، وفي أسلوب ترتيب تلك الاحياز، وإنما بكيفية "اختراق" المعمار للكثير من العقبات الإدارية والروتينية لجعل الحلم التصميمي واقعاً، وهو امر مذهل حقا لناحية تحقيقه في تلك السنين، وتحت سلطة الإدارة الثورية! وعندما أقول بان هيئتها غير مسبوقة، فما هذا الا، لان الممارسة المعمارية الاسكانية لم تعرف مثيلا لها سابقا، كما لم يدرك احدٌ، وقتها، قيمة الشكل الذي اجترحه هذا المعمار الرائد! &ورغم ان عمارة الدارة اثارت قدرا كبيرا من النقاش حولها، منذ ان اكتمل بناءها، ولهذا تعد اليوم من المباني المشمولة بالحفاظ من قبل الدولة الروسية، ويحّضر لها، الآن، لتكون من ضمن لائحة مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. وبالمناسبة فان اليونسكو دعت عام 1990، (وهو عام مئوية ميلنيكوف)، بـ <عام ميلنيكوف>.&
في زيارتي الأخيرة لموسكو قبل أيام، حرصت على زيارة الدارة وتصويرها، واستعادة ذكريات جميلة، قضيتها سابقا في فضاءاتها مع رب البيت: المعمار العالمي الشهير. والان ومع حفيدته "نتالي ميلنيكوف"، التي نظمت لنا: نحن مجموعة من محبي عمارة الدارة، جولة ممتعة ومفيدة ومبهجة داخل احيازها الكثيرة الموزعة على مناسيب متباينة، هي التي اعرفها، ومطلع عليها جيدا، عندما كنت اتردد عليها، اثناء زياراتي لـ "صديقي" واستاذي قنسطنطين ميلنيكوف. وكما اشرت، تواً، فان حدث تصميم ومن ثم تنفيذ الدارة، في تلك الأزمنة، كان حدثاً استثنائيا وفريدا في آن معاً. ولم يمنح أي معمار مثل هذه الامكانية. الا ان معمارنا كان يحظى وقتها بشهرة كبيرة، جعلت منه معمارا مهما ومعروفا على نطاق واسع. نعرف أيضا، ان باعث تلك الشهرة &(و"الحظوة" ..ايضا)، يعود بالأساس لحدثين مهمين تصميمياً، أولهما تصميمه "تابوت" لضريح لينين قائد الثورة البلشفية عام 1924، والامر الآخر، تصميمه (وتنفيذه) جناح الاتحاد السوفياتي في "معرض باريس الدولي للفنون التزيينية والصناعية" سنة 1925؛ ذلك الجناح الذي لقيت عمارته قبولا واسعا ونال شهرة كبيرة، ما جعل &تلك العمارة ان تكون من أفضل أربعة اجنحة شهدها القرن العشرون، وهي بالإضافة الى جناح ميلنيكوف هذا، هناك جناح " اسبيري نوفو" المصمم من قبل لو كوربوزييه في نفس المعرض، وجناح المانيا لميس فان دير روّ في معرض برشلونة الدولي سنة 1929، وجناح مجلة "بلوبرنت" Blueprint المصمم من قبل زهاء حديد في بيرمينغهام بإنكلترة سنة 1995.&
ومع ان الفترة المتاحة لتصميم وتنفيذ الجناح كانت مضغوطة جدا، فان ميلنيكوف استطاع ان ينجز أحد روائع عمارة الحداثة ضمن ذلك الوقت القصير المتاح. فعندما دعت الحكومة الفرنسية، رسميا، حكومة الاتحاد السوفياتي (الذي كانت فرنسا قد اعترفت به قبيل هذه الدعوة بوقت قصير سنة 1924) للمشاركة في ذلك المعرض، تلقف السوفييت تلك الدعوة بارتياح كبير، وأعربوا سريعا عن نيتهم بالمشاركة. وقد نظمت مسابقة معمارية على عجل، لتصميم الجناح إياه، ساهم فيها كثر من المعماريين: الطليعيين منهم وأنصار الاتجاه الكلاسيكي على حدٍ سواء. وقد فاز التصميم المعد من قبل ميلنيكوف بقرار من لجنة تحكيم كان من بين اعضائها وزير الثقافة السوفيتي المتنور "لوناجارسكي" والشاعر المجدد والطليعي "فلاديمير ماياكوفسكي".&
كانت عمارة الجناح، في ذلك المعرض (الذي اعتبر تنظيمه تأسيسا رسميا لطراز "الارت ديكو" Art Deco. ومرجعية تلك التسمية من اسم المعرض ذاته: معرض "الفنون التزيينية")، كانت لدرجة حداثية وطليعية، بحيث كانت لغتها التصميمية غير المسبوقة، تعبر عن المستقبل أكثر بكثير من ان تسعى ان تكون آنية. ثمة سلم عريض موقع، تماماً، على خط وتر مخطط المبنى ذي الشكل المستطيل، يقود من الجهتين الى الأعلى، حيث توجد بقية الفراغات المتممة للجناح في هذا المنسوب. استخدم الخشب، كمادة انشائية أساسية، لتدارك الوقت الضيق المتاح لتنفيذ المبنى. كما استخدمت على نطاق واسع الالواح الزجاجية في الواجهات، التي تم تقطيعها الى مربعات شكلت إطارات لتلك الاشكال الهندسية، ما اكسب واجهات الجناح معالجة حداثية جدا، وطليعية جدا، وغير مسبوقة ايضاً. في حين تم تسقيف هذا الممر/ السلم بألواح خشبية مائلة، تناوب موقعها على الجهتين بحركة إيقاعية موحدة، ما أضفي حيوية وديناميكية على كتلة الجناح وفضاءه "المحصور". تم تلوين معظم سطوح الجناح باللون الأحمر، ووضعت سارية عالية، ذات مسقط مثلث بجنب المدخل، مشغولة هي الأخرى بالخشب، وتحمل أحرف لاسم الاتحاد السوفياتي باللغة الروسية.&
لقد اثارت عمارة الجناح، ذات اللغة الواضحة والمختزلة والاحساس بالديناميكية التي تشي بها عناصرها التصميمية، وخصوصا مفردة السلم الوتري، وتشغيله ليكون المفردة الأساسية في مهمة التنطيق التكويني، فضلا على حداثة اسلوب استخدام الالواح الزجاجية بالصيغة التي اقترحها المعمار، اثارت اهتمام كثر من زوار المعرض، ولا سيما المعماريين منهم. وأشاد لو كوربوزيه نفسه بعمارة الجناح قائلا ان عمارته جديرة بالانتباه كونها تمثل احدى الروائع التصميمية لعمارة الحداثة. وهي اشادة مهمة ومعتبرة لجهة منزلة قائلها ودوره الطليعي والرائد في تكريس قيم عمارة الحداثة العالمية. وقد زار الجناح بعد الافتتاح الرسمي له في 10 حزيران سنة 1925، رئيس الجمهورية الفرنسية وقتها “غاستون دومرغ" بحضور المعمار والمسؤولين السوفييت. وتم تفكيك الجناح بعد انتهاء المعرض، ونقله الى منطقة جديدة، بعد ان اعيد تركيبه مرة آخرى في ساحة "الكولنيل فابيان" Place du Colonel Fabien ، واستخدم كنادٍ للنقابات، بيد ان اثره فُـقد، اثناء الحرب الكونية الثانية. وفي مكانه السابق صمم المعمار البرازيلي المعروف "اوسكار نيماير" ما بين سنين 1966-1971، مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي!
ساهم ميلنيكوف بنشاط في الحملة التي قادها المثقفون السوفييت، في العشرينات، والخاصة بانتشار وتكريس الثقافة في صفوف الطبقة العاملة عن طريق بناء مؤسسات جديدة وجمعيات معنية بالثقافة وتعميم انتشارها. ومن ضمن ذلك النشاط التنويري، بناء "نوادي ثقافية" انتشر تواجدها في امكنة عمل وتجمع العمال ومناطق سكناهم. ويعد "نادي روساكوف الثقافي" المبنى الأول ضمن خمسة مبانٍ صممها ميلنيكوف في عقد العشرينات بموسكو. وهذا المبنى الواقع في شمال العاصمة الروسية، والمشيد ما بين 1927- 1929، يعد من اشهرها (وافضلها،...ايضاً)، لجهة لغته التصميمية الفريدة وأسلوب توظيف عناصرها التصميمية التي استطاع المعمار ان "يشغلها" بصورة غير عادية، بدت، أيضا، غير متوقعة! ففي عمارة هذا المبنى، يبرز ميلنيكوف، لأول مرة، في عمارة هذا النمط من المباني، شرفات القاعة الثلاث الى الخارج، جاعلا من هذه المعالجة "ضربة" التكوين وعنوانها التجديدي. فيلجأ الى تقسيم فضاء العرض الى جزء أساسي وثلاثة أجزاء مدرجات (امفيثاياتر Amphitheatre) مستطيلة الشكل في مساقطها. وكل فضاء من هذه الاحياز يمكن له ان يعمل منفردا او مجتمعا مع خشبة مسرح واحدة. لقد اسبغت المدرجات الثلاثة التي صيغت كتلها كحجوم خرسانية كابوليه على قدر كبير من الجرأة الانشائية، أسبغت على هيئة المبنى قوة تعبيرية وفنية عاليتين، ومنحته دينامية فعالة، مضفية عليه سمات حداثية واضحة. ومن عمارة نادي روساكوف تحديدا، ظهرت العديد من المحاكات التصميمية في الممارسة المعمارية العالمية، وخصوصا مفردة ابراز "كتل" القاعات المصممة وشرفاتها الى الخارج. واليوم، يعتبر مبنى "نادي روساكوف"، الذي خضع لإعمال صيانة وترميم شاملين في الفترة الأخيرة، من بين تعداد مجموعة "الصروح الثقافية" واجبة الحماية من قبل الدولة الروسية.&
يبقى انتاج ميلنيكوف المعماري انتاجا متساوقا مع طروحات الاتجاه "العقلاني"، ذلك الاتجاه المؤثر في النشاط المعماري الروسي في العشرينات وبداية الثلاثينات. ففي تقصياته نحو التعبيرية المفرطة وتطلعه نحوها، اهتم ميلنيكوف كثيرا بالتراكيب الكابولية، مركزا على المحاور الوترية في الاشكال المبتدعة، ومستعينا بأشكال هندسية، نادرا ما استعملت في الممارسة المعمارية، مثل المخاريط واشكال القطع المكافئ والمثلثات والمتوازي الاضلاع الخ. ولهذا فقد حظيت ابداعاته المعمارية باهتمام كبير سواء من قبل المعماريين الروس او الأجانب، لجهة بحثه الدائم عن اشكال معمارية معبرة وحيوية، تكون مشوبة، دوما، بالعاطفة والحركة المفاجئة.&

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي
&