&
في عام 1941 جلست مجموعة من المثقفين في فيلا قرب مارسيليا يخلطون اوراق الحظ بانتظار فرصة ان يأتي مركب ينقذهم من الاحتلال النازي. ولم تكشف اوراق الحظ طالعهم لكنهم بدلا من ذلك أخذوا يرسمون على الأوراق محولين رموزها الباطنية الى بورتريهات والبورتريهات الى احلام. كان الوقت يمر بطيئاً ولكنهم في النهاية تمكنوا من الابحار الى العالم الجديد. بدت الرحلة كأنها عودة الى الوراء بنظر ويفريدو لام. إذ كان هذه الفنان المولود في كوبا أحد المثقفين الهاربين من النازية ، وكانوا يزجون الوقت بأوراق الحظ مع اندريه بريتون شيخ الحركة السوريالية الذي بقي طيلة حياته من أكبر المعجبين بعمل لام. درس لام المولود في كوبا عام 1902 الفن ومارسه في اوروبا منذ العشرينات. وبدأت اعماله التي انجزها عشية الحرب العالمية الثانية تنال اعترافاً من خلال المعارض التي اقامها بتشجيع ودعم من بيكاسو. ولا بد انها كانت ضربة موجعة ان يجد لام نفسه مجبراً على الفرار من فرنسا والعودة الى كوبا في وقت بدأ اسمه يصبح معروفاً وأعماله تلقى اقبالا. ولكن لام اصبح فناناً حديثاً عظيما ما ان وطأت قدمه ارض هافانا ، كما يبين معرض اعماله الذي يقام حاليا في لندن. يعلن هذا المعرض الأخاذ ان ويفريدو لام أثبت انتماءه الى الفنانين الكبار ما ان نزل من مركبه في هافانا. ويقدم معرض لندن لنا فناناً انجبت أوديسته من كوبا الى اوروبا الطليعية ومنها عائدا الى كوبا ، فناً راقياً وبدائياً في آن واحد.&
يشير الناقد الفني لصحيفة الغارديان جونثان جونز الى ان توجس لام الثقافي في اسبانيا وباريس قبل الحرب دفعه الى ان يرسم ما كان في احيان كثيرة اعمالا تحاكي بيكاسو وماتيس. فهي لوحات جميلة لكنها اشتقاقية بالكامل على حد وصف جونز مضيفاً ان لا غرو ان يحتضنه بيكاسو ويعتبر فنه تكريماً له. ويرى باحثون ان لام لو بقي في اوروبا لبقي يراوح في مكانه فنياً. ولكنه أُجبر على العودة الى كوبا حيث كانت عرَّابته كاهنة سانتيرية. والسانتيريا ديانة تجمع بين اساطير اليوروبا وطقوسهم في غرب افريقيا ، وظلام الكاثوليكية الاسبانية وهمجيتها ، على حد تعبير جونز. وبالنسبة لفنان مثل لام مأخوذ بأقنعة بيكاسو البدائية وسوريالة بريتون الحلمية ، كانت المعتقدات الفولكلورية في كوبا بمثابة الفتيل الذي فجر طاقته الفنية. وأعاد لام الوصل بحكايات طفولته واساطيرها وانتج سلسلة من الروائع السوريالية.&
آلهة غاضبة تحدق بأنظارها وسط احراش شوكية والوان قزحية براقة. أقنعة وسكاكين قربانية تلتمع في الظلام. فان لوحات لام الكوبية التي رسمها في الأربعينات أكبر بكثير من اعماله التي سبقتها في اوروبا ، وأكثر اصالة بما لا يُقاس. وفي لوحة "ضوء الغابة" (1942) يختبئ مارد مقنع في غابة من السيقان الكثيفة والأوراق الهائلة. الأشكال بسيطة وصارخة والأبعاد مخيفة. وترشف روائع لام الناضجة من المعرفة الواسعة التي اكتسبها خلال دراسة الفن الحديث. وتصطدم "بدائية" الفن الطليعي الاوروبي على نحو خلاق بتراث السانتيريا. بعد ان أبحر بريتون مع لام الى منطقة الكاريبي واصل رحلته الى نيويورك حيث بدأ فنانون اميركيون متأثرون بالسوريالية رسم لوحات اسطورية مثل لوحة جاكسون بولوك "حراس الأسرار" التي انجزها في عام 1943. هناك اختلاف كبير بين غابة لام الحلمية وفن نيويورك الذي تطور لاحقا الى تعبيرية تجريدية. بيد انه ليس الاختلاف المتوقع. فان منظور لام الكوبي كبير الشبه بالفن الاميركي في زمنه من نواحي عديدة. ولكن التعبيريين التجريديين لم يتجرأوا على تناول الجنس في اعمالهم ، باستثناء ويلام دي كونينغ. وكان عالمهم النفسي المفضل يونغ وليس فرويد. وعلى النقيض منهم فان لوحات لام تنبض بالجنس ، وتنبثق الأثداء والأرداف متزاحمة من مخيلته المحمومة. فهو يرسم "حديقة من الرغبة".
&وفي سلسلة من اللوحات المذهلة لنصف امرأة ونصف حصان يرسم لام اسطورة حسية ذات قوة كبيرة ومرجعية غريبة. واعماله الفنية في الخمسينات زاخرة بالطقوس الشيطانية والجنسوية الفاقعة ، كلها مرسومة باسلوب تجريدي حاد. وبقيت ثقافة لام الاوروبية معه ولم تغادره ، وكان من آخر السورياليين الحقيقيين الكبار. ومن هنا حضور الجنس بهذا القدر البارز في لوحاته ولهذا السبب عاضده بريتون في الخمسينات حين كان فنه الاستفزازي أقوى ورقة بيد السوريالية. بعد ان سرقت نيويورك الفن الحديث من باريس بدا الفن الحلمي للحركة السوريالية عتيقاً وبالياً ولكن ويفريدو لام هو الذي ابقاه حياً. واستمر في رسم غابات تجريدية تعج بالآلهة والوحوش عندما نشر الكاتب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز روايته "مئة عام من العزلة" في عام 1967. ولم يتوقف لام عن رسم فنظازيا الحلم حتى وفاته في باريس عام 1982. وكان فنه ورقة الحظ الأخيرة لدى الحركة السوريالية واعجوبة مدارية في الفن الحديث.&
يستمر معرض ويفريدو لام في متحف تيت مودرن في لندن من 14 ايلول/سبتمبر الى 8 كانون الثاني/ يناير 2017.
&