هذه أشهر ثورة في التاريخ وأكثرها تأثيرا فيه إذ ما زالت آثارها ومآثرها ملموسة حتى يومنا هذا وما زال كتاب ومؤرخون يبحثون في شأنها وتفاصيلها وأسبابها ونتائجها دون توقف حتى لا يكاد يمر شهر تقريبا دون أن يصدر كتاب جديد عنها. أحد هذه الكتب صدر قبل أيام في شكل رواية كتبها الفرنسي أريك فويار وأثار بها الكثير من الإهتمام والإعجاب. ويرى نقاد أن السبب يكمن في أمرين، أولهما أن روايته تمنح حياة حقيقية للثوار البسطاء الذين صنعوا التاريخ في غفلة عن الزمان وهو أمر غير مسبوق تقريبا، وثانيهما أن الكاتب أبدع في استخدام قدرته اللغوية الهائلة وهو ما دفع نقادا إلى وصف روايته ب "سيل من الكلمات المضيئة". &&

البداية
بدأ كل شئ في 28 من نيسان/ابريل عام 1789 عندما داهمت جموع جائعة غاضبة معملا ينتج أوراقا ملونة لتزيين الجدران في ضاحية سانت انطوان شرق باريس. كانت تلك الشرارة الأولى للثورة الفرنسية التي حركت أو حركتها جموع ما عادت تحتمل السكوت والصبر والقبول بتفوق نخبة قليلة فيما تعاني الأغلبية من ظروف عيش وحياة سيئة للغاية. في ذلك اليوم انبثقت شرارة هائلة لم يستطع قتلها أحد لتتحول شيئا فشيئا إلى ثورة حقيقية حملت تاريخ الرابع عشر من تموز/ يوليو، عام 1789. &&
قصة فويار التي تحمل عنوان "14 تموز/يوليو" تغلي بتلك الجموع ، "أولئك الذين أسقطهم التاريخ في بالوعة النسيان"، حسب قول الكاتب، أولئك الذين لا يعرف أحد أسماءهم ولا أشكالهم ولا أحد يعرف كيف تحولوا على حين غرة من أناس بسطاء يبحثون عن إرضاء احتياجات يومية بسيطة وعن تحقيق سعادات دنيا، إلى أشخاص خلقوا تاريخا جديدا غير أنهم لم يوقعوا عليه بأسمائهم. ذلك أنهم تحولوا إلى مجرد جموع، إلى حشد تحرك وواجه السلطات وانتفض على الظلم والإستبداد غير أن التاريخ سرعان ما أغلق كتابه ونساه أو تناساه.&
وهنا يبرز إبداع فويار، لأنه منح هؤلاء حياة واقعية وأعطاهم أسماء وحولهم من مجرد أوهام وأشكال خيالية إلى أناس ملموسين يمكن أن نسمع صوتهم وأن ندرك تماما ما تملكهم من جنون ومن اندفاع ومن حماس لينتقلوا في لمحة عين من خانة نكرات وخانة مجهولين إلى أشخاص حقيقيين. &
في الرابع عشر من تموز سقط سجن الباستيل ومن أسقطه جمع من البشر الجياع الغاضبين قرروا مداهمة المبنى لأنهم أرادوا الحصول على سلاح وعلى ذخيرة. كي يواجهوا السلطات. وكان أن انهارت الجدران وسقطت كل الحدود. ومع ذلك، لا أحد يعرف على وجه التحديد من كان هؤلاء وماذا كانوا يعملون وكيف كانوا يعيشون وينتقلون في حياتهم الرتيبة من يوم إلى آخر، حتى جاء كتاب فويار "بدا وكأن عصا ساحرة غليظة ضربت باريس. كان كل شئ يتصدع، كل شئ بدأ ينهار، في كل مكان، بين الجدران المصفرة وبين الممرات والحدائق. والناس في كل مكان، فيما ألقى جنود من أعلى مبنى السجن نظرات حائرة عبر الثغرات. هذه الجموع مدينة وهذه المدينة هي الشعب".&
تقع الرواية في مائتي صفحة هي عبارة عن "دفق كلمات تشبه ألعابا نارية تشتعل في كل الإتجاهات" ينقلنا عبرها فويار إلى أيام الثورة ليصف المشاعر التي استولت على النفوس وحركت الأرواح والأفكار ثم صنعت التاريخ. يحدثنا الكاتب عن شجاعة هؤلاء البسطاء "هؤلاء العامة" أو "الغوغاء" كما يحلو للبعض أن يسميهم. وقد منحهم الكاتب أسماءا ومهنا، بينهم عمال يوميون وبوابون وخياطون ونساجون وطباخون وبائعو خمور وحدادون ومسؤولون عن إنارة شوارع المدينة ما أن يحل الظلام. بينهم صباغون ومصلحو أحذية وسباكون كانوا يسكنون في منطقة سان انطوان. بينهم بليسيه ورامليه وبيو وبوليه وكينيو وروبا ورولان. &بينهم أيضا مايار وكانيفيه الصغير ودوغان وتورني وشولا وإيلي وهولان وآنيه وهومبير والأخوة موران… "ونادوا إسمها أخيرا، جاء دورها الآن. أدخلوها حجرة صغيرة كانت بمثابة مكتب فيها رجل جالس يرتدي لباسا أسود قذرا ومتهرئا. وكان الرجل كاهنا"... "جاءت ماري بريار لتحاول الحصول على مبلغ شهري صغير يعينها على أكل الخبز بعد وفاة زوجها في معمعمة الإستيلاء على الباستيل. خط رجل الدين إسمها على هامش سجل الوفيات، فشعرت بأنها وحيدة تماما .. مثل جثة شاعل المصابيح المرمية في سجن شاتليه. رفعت رأسها وحدقت بنظرات حادة في الرجل الجالس أمامها، لكنه لم يرها. كان يكتب". &&
ويقول فويار "يجب أن نكتب عما نجهله. نحن نجهل تماما في الواقع ما حدث في الرابع عشر من تموز/يوليو وما لدينا من كتابات إما مشذبة أكثر مما ينبغي أو غير مكتملة. ولذا، دعونا ننظر إلى الأشياء من وجهة نظر الجموع التي ظلت بلا أسماء". & & &&
رواية فويار تشعر القارئ بأن الكاتب كان هناك عندما تم استجواب جون موران الحجار وشارل غليف بائع القرطاسية وشولا بائع الخمر في شارع نواييه وفرانسوا المسؤول عن تنظيف الشارع وآخرين عديدين. وكلهم من عامة الناس، من الفقراء، من النكرات الذين لا يذكر أسماءهم أحد وقد منحهم الكاتب أسماءا ووجودا وحياة .. فلولاهم لما قامت الثورة" ولما تمكن التاريخ من كتابة نفسه وخط مسيرته
&