&
نعلم أنّ الشاعر التونسيّ الكبير أبو القاسم الشابي(1909-1934) عاش الجزء الأكبر من عمره القصير حياة صعبة اتسمت بالتقلبات والأزمات على مستويات متعددة. فبالإضافة إلى المتاعب الصحيّة التي كان يعاني منها، والتي لم تكن تكفّ عن تعكير مزاجه، وعرقلة عمله وتفكيره، كان صاحب:”أغاني الحياة"، يتألم ويتعذبّ بسبب الأمراض الخطيرة التي كانت متفشية في الوقع السياسي والثقافي للبلاد. وهذا ما تعكسه يوميّاته ورسائله، خصوصا تلك التي كان يبعث بها إلى صديقه الناقد محمد الحليوي. ففي كلّ واحدة من هذه الرسائل، هو لا يقتصر فقط على الإشارة إلى أوضاعه النفسيّة، وإلى الأوجاع التي يكابدها بسبب مرض القلب، بل هو يتعدّى ذلك إلى استعراض المشاكل والقضايا التي كانت تعيشها تونس في زمنه، حاثّا المثقفين على ضرورة مواجهتها ومعالجتها لكي تكون الثقافة التونسية في مستوى تحديات العصر. ومن خلال هذه الرسائل، نحن نكتشف أنّ الشابي كان متابعا نبيها لكلّ الأحداث الثقافيّة، سواء تمثلت في أنشطة، أو في ندوات، أو في لقاءات، أو في مقالات تصدر في الصحف والمجلات،أو في كتب صادرة حديثا، أو في محاضرات تلقى هنا وهناك. وهو يعلق على كل هذا بطريقة رصينة، وذكية، مشيرا إلى السلبيّات، وإلى النقاط السوداء، منبّها من مخاطرها، ومن انعكاساتها السلبية. وفي الرسائل أيضا، ينتقد الشابي بشدة المثقفين المتملقين والسطحيين والإنتهازيين الذين يستغلون الثقافة للحصول على منافع شخصيّة، أو لتشويه القيم النبيلة، أو للإنتقام من المثفقفين النبلاء الذين يفوقونهم موهبة وذكاء.
ونحن نعلم أن الشابي عانى الأمرين من هذا الرهط من المثقفين الذين حقّروا من شأنه، وحرّضوا عليه المتزمتين والرجعيين لتكفيره. كما أنهم سخروا من أفكاره الجريئة بخصوص الشعر، والتي تضمنها كتابه البديع:”الخيال الشعري عند العرب". ورغم أنه لجأ إلى القاهرة لنشر قصائده في مجلة:”أبولو" ذات النزعة الرومانسيّة"، فإنه كان يعيب على المشارقة إنصرافهم عن الإهتمام بالأدب التونسي، منتقدا نظرتهم الإستعلائيّة.فلكأن تونس أقفرت من الإبداع ومن الفن الأصيل.
وكان على التونسيّين أن ينتظروا مرور ربع قرن على رحيله، لكي يعلموا أنهم أنجبوا شاعرا يحقّ له أن يكون شاعرهم الوطنيّ الأول. لذا ضمّنوا نشيدهم الرسمي الذي أصبحوا يرددونه بعد حصول البلاد على استقلالها عام 1956، مقطعا من قصيدته الشهيرة"إرادة الحياة". كما دأبت وزارة الثقافة منذ ذلك الحين على الإحتفال سنويا به في مدينة توزر، ميسقط رأسه. وأمّا أعماله الكاملة فقد صدرت في طبعة أنيقة. لكن مؤخرا راج خبر مؤلم يقول بإن البيت الذي شهد مولده في توزر، تمّ هدمه! لذا توالت على صفحات الجرائد، وعلى مواقع التواصل الإجتماعي التعليقات المنددة بهذه الفعلة الشنيعة، وبمرتكبيها.
والحقيقة أن إنصاف الشابي، وإعادة الإعتبار له، لا يعنيان فقط إقامة روض له في مسقط رأسه، ولا في الإحتفالات السنوية التي تقام إحتفاء به، ولا في الندوات التي تنتظم هنا أو هناك تكريما له، ولا في ترديد مقطع من قصائده في التظاهرات الشعبية والمناسبات الوطنيّة، ولا في تزيين الأوراق المالية بصوره، ولا في إعادة بناء بيته العائلي، كما أشار إلى ذلك الرئيس السبسي ردّا على موجة الإحتجاجات الأخيرة، وإنما يعني شيئا آخر. وهذا الشيء الآخر هو إرساء ثقافة جديدة، وممارسة العمل الثقافي بأشكال تقطع مع الماضي. أشكال تتيح للسلطات الثقافية تجاوز الهنات، والسلبيّات، والإنحرافات التي طبعت الحياة الثقافية في عصره.كما طبعته في مختلف الفترات التي أعقبت الإستقلال، بما ذلك الفترة التي تعيشها البلاد راهنا في ظل ما سمي ب"ثورة الحرية والكرامة". كما يتحتّم العمل على الحدّ من سلطة المتزلفين والإنهازيين الذين دأبوا منذ زمن الشابي والطاهر الحداد وجماعة "تحت السور" على محاربة المبدعين الحقيقيين ،وتقزيمهم، وإفساد حياتهم بوسائل دنيئة قد تؤدي أحيانا إلى تجويعهم، وقطع أرزاقهم. وقد تكاثر هؤلاء في السنوات الأخيرة. ورغم أن أغلبهم كانوا من بين المستفيدين من نظام بن علي على المستوى المادي والمعنوي، فإنهم اعتلوا المنابر، واحتلوا المناصب الرفيعة، ناسبين لأنفسهم بطولات ثوريّة!
ويعني إنصاف الشابي أيضا التحلي بالصدق والنزاهة في الحياة الثقافية، وقطع الطريق على الذين يتقنون الإسفاف في الأقوال، وفي الأفعال، والتصدي لما أصبح يسمى ب"المافيات الثقافية" التي تسيطر الآن على العديد من المؤسسات الكبيرة مثل "بيت الحكمة"، و"المركز الوطني للترجمة"، و"المكتبة الوطنية"، وغيرها من المؤسسات. ويحرك هذه" المافيات" جامعيون استفادوا من كل الأنظمة، لكنهم يفلحون دائما في اكتساب عذريّة جديدة! وكما هو حالهم في الماضي القريب والبعيد، هم يشرّعون كلّ الأعمال وكلّ الأفعال المنافية للقيم الثقافية النبيلة. فلا عجب إذن أن تشهد السنوات الأخيرة رحيل العديد من المبدعين والفنانين عن الدنيا، وفي قلوبهم وجع، وفي نفوسهم ألم الحرمان والإقصاء والتهميش. وأما من لا يزالون على قيد الحياة، فيواجهون في كل يوم ما يزيد في تنغيص حياتهم، وعرقلة عملهم بمختلف الطرق والوسائل.
وكان من الممكن أن تكون الجائزة التي أنشأها"البنك التونسي" مطلقا عليها إسم أبي القاسم الشابي، في مستوى ما يطمح إليه المبدعون الذين عكست أعمالهم سواء في الشعر، أم في الرواية، مواهبهم العالية. إلاّ أن الكاتب عز الدين المدني الذي يرأس لجنة هذه الجائزة منذ الثمانينات من القرن الماضي، دأب على أن يفعل ما يشاء وما يريد ، فلا يهبها إلإ لمن اصطفاه من الأصحاب والأحباب، وجلهم بلا قيمة وبلا موهبة. لذا حادت الجائزة عن مقاصدها النبيلة. فكما لو أنها بعث للأنتقام من الشابي، وليس تكريما وإنصافا له، ولمن ورثوا موهبته، وصدقه، ونزاهته!