&
لا تزال رائعة "الغريب" التي كتبها ألبير كامو عندما كان في السادسة والعشرين من عمره، تتصدر قائمة الروايات الأفضل مبيعا في جميع أنحاء العالم. ولا يزال المعجبون بها من كتاب النقد والرواية يعودون إليها بطرق مختلفة ومتعددة...ففي روايته:”مارسو،تحقيق مضاد"، إختار الكاتب الجزائري كمال داود أن يتحاور مع البير كامو بطريقته الخاصة. طريقة الروائي الذي يكشف عن جوانب ظلت مخفية وغير معلن عنها في رواية "الغريب"، التي يقوم بطلها مارسو بقتل "عربي" على الشاطئ في يوم شديد الحرارة. متحاورا مع ألبير كامو، يقوم كمال داود بشكف حقائق جديدة تجعلنا مجبرين على العودة الى رواية" الغريب" لنربط بين أحداثها وأحداث "مارسو-تحقيق مضاد". لذلك، مخاطبا ألبير كامو على لسان بطل روايته، هو يكتب قائلا:”أحرص على أن تحتفظ بما هو أساسيّ عندما تحقق في جريمة مّا: من هو المقتول؟ ومن يكون؟".
منذ بداية رواية"مارسو-تحقيق مضاد"،نحن نتعرف على الرواي ، وهو شقيق المقتول في رواية" الغريب"، ويدعى موسى. عكس كامو الذي يبدأ روايته بالجملة الشهيرة:” اليوم ماتت أمي ..”، يشرع شقيق المقتول في رواية الأحداث قائلا:”اليوم لا تزال أمي على قيد الحياة. وهي لم تعد تقول أيّ شيء. غير أنها يمكن أن تكون قادرة على رواية أشياء كثيرة، عكسي أنا الذي من كثرة ما اجتررت هذه القصة، فإنني أكاد لا أتذكر منها شيئا". ومنذ البداية أيضا، يعرفنا الراوي على عائلته الصغيرة. فهو الشقيق الأصغر للمقتول. وقد توفي والده وهو صغير، وفي ظروف غامضة. لذا هو لا يعرف عنه شيئا آخر غير أنه كان “عسّاسا”، أي حارسا. وكان موسى طويل القامة "يكاد رأسه بلامس السحاب". وكان له جسد هزيل، كثير العقد بسبب الجوع والقوة التي يمنحها الغضب". وكان يعطف كثيرا على أخيه، ويحميه من شرّ الشارع .وعندما يقتل، يعترف الأخ الأصغر بأنه لم يشعر لا بغضب ولا بألم، ولكن بالخيبة ،والإهانة كما لو أنه تلقى سبّة قاسية إذ كان على يقين دائما بأن أخاه يتمتع بقوة جسدية تجعله قادرا على" أن يلوي عنق جنديّ من جنود فرعون". ويشير الرواي الى أن الشرطة الفرنسية لم تحقق في الجريمة التي اقترفها مارسو، ولم تستجوب لا والدته ولا هو. فلكأن أخاه المقتول مجرد كلب سائب قتل على الشاطئ. وبعد أن تعلم القراءة والكتابة، شعر الأخ الأصغر بضرورة إجراء تحقيق لمعرفة الأسباب الحقيقيّة التي أدت الى مقتل اخيه. أثناء إجرائه للتحقيق، هو يروي لنا فصولا من سيرته الشخصية المليئة بالخيبات والثقوب، ويكشف لنا عن خفايا بحثه المضني عن آثار أخيه المقتول على الشاطئ في يوم من أيام صيف 1942:”احيانا أفكر في الذهاب الى الشاطئ لأنبش في رماله في نفس ساعة الجريمة. أي في الصيف عندما تكون الشمس جدّ قريبة من الأرض حتى أنها يمكن أن تصيب الانسان بالجنون ،أو تدفعه لاقتراف جريمة ما. غير أني لا أرى هذا مجديا. ثم أن البحر لا يلائمني. وأنا أخشى الأمواج دائما. ولا أرغب في السباحة، فالماء يلتهمني بسرعة”. ويحصل في بعض الأوقات أن يشعر الأخ الأصغر أن أخاه المقتول يلاحقه مثل شبح فيتماهى معه، ومع قاتله مارسو، ومع القاضي، ومع آخرين. كما يروي لنا الأخ الأصغر أحداثا مهمة من تاريخ الجزائر في الفترة الاستعمارية، أو خلال الحرب التحريرية، أو في نهايتها عندما شرع الفرنسيون في الفرار من المدن ومن القرى، وأخذ الجزائريون ينتقمون من البعض منهم، ويقتلونهم من دون أن يخشوا العقاب والإدانة.على لسان بطله، يكتب كمال داود في نهاية روايته قائلا:”هلى تلائمك قصتي؟ هذا كلّ ما باستطاعتي أن أهديك اياه.أنا أخ موسى أو أخ لاأحد. أنا مجرد كائن مولع بالكذب التقيت به لتملأ دفاترك....هذا هو إختيارك يا صديقي".
أمّ الناقدة والجامعيّة الأمريكيّة أليس كبلان، فقد فضّلت أن تكشف للمعجبين برائعة :”الغريب" عن الظروف التي أوْحت لألبير كامو بكتابتها. وقد صدر التحقيق الذي خصصته لذلك تحت عنوان:”بحثا عن الغريب" في ترجمة فرنسية عن دار غاليمار. وجاء هذا التحقيق في 336 صفحة. ويعني هذا أن عدد صفحاته أكثر من ضعف صفحات رواية كامو!
وفي بداية تحقيقها المليء بالتفاصيل الدقيقة والمثيرة، تشير أليس كابلان إلى أن ألبير كامو شرع في كتابة رائعته في الجزائر، وأنهاها في حيّ مونمارتر بباريس في فاتح شهر مايو-أيار عام 19140. حال صدروها عن دار"غاليمار" يتزكية من أندريه مالرو، وباسكال بيا، أثارت تلك الرواية الصغيرة في حجمها، ضجة هائلة في الأوساط الأدبيّة الفرنسيّة. وإعتمادا على الوثائق التي إستندت إليها، تقول أليس مابلان إن ألبير كامو استوحى فكرة قتل مارسو للعربي على الشاطئ في يوم شديد الحرارة، من حادثة حقيقية. فأحد أصدقائه، تخاصم مع عربي على جزء من شاطئ وهران مخصص للفرنسيين، وأصيب بجرح عميق في وجهه. وبعد مرور بضع ساعات على ذلك، عاد صديق كامو إلى الشاطئ مسلحا بمسدس، إلاّ أنه اكتفى بتهديد الشاب الجزائري البالغ من العمر 19 عاما، من دون أن يطلق الرصاص.
من خلال بحثها، نكتشف أن الشاب الجزائري المشار إليه، والمدعو قدور الطويل، تزوج بعد ذلك من ممرضة فرنسيّة. وقد نشرت جريدة "ألجي روبيبليكان" التي عمل فيها كامو في سنوات شبابه الأولى العديد من التحقيقات عن جرائم ارتكبت بسبب خصومات بين الجزائريين والفرنسيين. من ذلك مثلا أن نقابيّا فرنسيا قتل عتّالا في ميناء الجزائر بسبب خصومة بينهما. وقد حكم على القاتل بسبع سنوات أشغال شاقة، أمضاها في مستعمرة "كايان" البعيدة. وقتل فرنسيّ آخر جاره العربي بسبب سياج يفصل بين بيتيهما. لكن لماذا فضل كامو عدم ذكر إسم العربي الذي قتله مارسو؟ هذا السؤال جعل البعض يتهم كامو بالعنصرية. والمفكر الفلسطيني إدوار سعيد واحد من هؤلاء. ففي كتابه عن الإستشراق، أشار إلى"الكائنات المجهولة التي تستعمل كقماشة خلفيّة للميتافيزيقا الأوروبية". إلاّ أن أليس كبلان، تكشف أن إختيار كامو عدم ذكر إسم العربي المقتول، كان نتيجة عامل آخر. فقبل الشروع في كتابة روايته، كان قد قرأ رواية بوليسية أمريكية لجيمس.د.كاين بعنوان:”: ساعي البريد يدق الجرس مرتين". وقد صدرت هذه الرواية في ترجمة فرنسية عام 1936. ومن المؤكدأن كامو أعجب شديد الإعجاب بلغتها المكثفة، وبأسلوبها المتوتر. و"اليوناني" هو الشخصية الرئيسية في هذه الرواية. وربما لهذا السبب فضل كامو أن يكون بطله عربيا من دون إسم، تجنبا للمباشرية التي قد تفسد العمل الأدبي، وتسيء إليه مثلما هو الحال في" الواقعية الإشتراكية".
&