هذا احد الشعارات الرئيسة التي ما فتئت الأحزاب الدينية العراقية الحاكمة ترفعها. وهذا ما كان يكرره باستمرار هذا الممثل أو ذاك للسيد علي السيستاني.
كان واضحا تماما أن المقصود بالجوار هي إيران حصرا بسبب الأكاذيب الإيرانية عن احتمال استخدام القوات الأميركية العراق للعدوان على إيران.
هذه الأصوات المرتفعة عاليا وهي تطمئن إيران لم ترفع، ولا ترفع، صوتا أمام التدخل الإيراني الكاسح في العراق، والذي تحول إلى هيمنة على وسط العراق وجنوبه والتأثير على قرارات الحكومة ومواقفها. وها هو غزو آبار فكة ورفع العلم الإيراني، والكر الإيراني والفر، يبرهن من جديد، وبكل قوة، على سياسة مسايرة إيران حتى عندما تدخل أراضينا- مسايرة متجسدة في الصمت، ثم في التحذير quot;من التصعيدquot;، قاصدة أصوات الاحتجاجات الشعبية والعشائرية في الجنوب، وفي بغداد نفسها.
آبار فكة عراقية مائة بالمائة، ولو كانت لإيران تحفظات ما لكان بإمكانها إثارتها في المقابلات والزيارات شبه الدائمة بين الزعماء العراقيين والإيرانيين. أما أن تدخل أراضينا ثم تعلن أن أراضي الآبار أراضيها وترفع العلم الإيراني ، ثم تنزله، وتعود لرفعه فإنزاله، فإن هذا لا يعني غير ممارسة الغطرسة والأمر الواقع والهيمنة.
إن إيران خميني قد ورثت عن الشاه أطماعها في العراق، وخميني هو من رفع شعار quot;تحرير القدس يمر بكربلاء.quot;
العدوان الإيراني لا يجب اليوم مواجهته بحل عسكري، فهذا ليس وقته ونتائجه غير محمودة، وإنما المطلوب هو تقديم شكاوى عراقية رسمية لمجلس الأمن عن مجمل أعمال التدخل والعدوان الإيرانية، وخصوصا تحويل أكثر من 24 نهرا عن أراضينا. والمطلوب أيضا التهديد بطرد الشركات والمؤسسات التجارية وquot;الخيرية الإيرانيةquot; وعدم منح أي عقد لشركات إيرانية، وتحديد مواصفات وشروط الزيارات للعتبات المقدسة ومراقبتها لكيلا يتسلل بينها ضباط وعناصر المخابرات الإيرانية والحرس الثوري.
المالكي يتحدث عن تدخل quot;دول مجاورةquot; حتى عسكريا، دون أن يفصح ويضع النقاط على الحروف، ولكننا لا نعرف من التحركات العسكرية ضد العراق إلا قصفا إيرانيا متواصلا للقرى الكردستانية يقابل بالصمت، وإلا تدخلا عسكريا تركيا بين حين وحين ضد حزب العمال الكردستاني. فهل المالكي يقصد تركيا وإيران؟!
في الفترة الأخيرة، عشية الانتخابات، أثار المالكي وحزبه على نطاق واسع ورقة البعث، قاصدين منافسين سياسيين له، وصار الاتهام بالبعثية يوجه ضد كل من ينتقد الحكومة، فيما يجري التستر التام على الهيمنة الإيرانية. الخطر البعثي قائم ولا يجب نكرانه، وخطر القاعدة قائم ومستمر، ولكن التدخل الإيراني هو أيضا قائم ومستمر ويستند لجهاز دولة ومؤسسة الباسداران واستخباراتها وإلى المليارات من الدولارات وإلى شبكة واسعة من الجمعيات والشركات والأتباع، وهو ما لا تملكه لا القاعدة ولا البعث. كلا، إن فضح التدخل الإيراني ليس للتغطية على خطر البعث الصدامي، بل العكس هو الصحيح تماما- أي إن تهويل خطر البعثية هو الذي يتستر على الخطر الأكبر والأكثر قدرات سياسية وأمنية ومالية واقتصادية واجتماعية ومذهبية. وثمة حقيقة أخرى يعود الدكتور كاظم حبيب لإعادة التأكيد عليها في مقال له جديد. هذه الحقيقة هي أن quot;قوى بعثية شيعية ولجت إلى هذه الأحزاب- [الإسلامية الشيعية]- باتجاه التوبة، وهي في ممارساتها أصبحت في الكثير من الجوانب تدين بالولاء لإيران أكثر مما تدين بالولاء للأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية، وكانت من بين القوى التي ساهمت بقتل الكثير من البشر. وجمهرة غير قليلة من هؤلاء هم من الجنود الذين أسروا وجرى غسل أدمغتهم وإرسالهم ثانية للعراق أو التحقوا بفيلق بدر..quot; وقد استطاعت إيران، كما يقول نفس المقال، quot;الهيمنة على عدد كبير من منظمات أهلية اجتماعية ودينية وسياسية، أسست على أساس أنها منظمات مجتمع مدني، وأحزاب سياسية صغيرة تحت أسماء كثيرة للغرض نفسه. ومن خلال ذلك كانت إيران تسعى إلى تحقيق ما يلي:1- الهيمنة الكاملة على الحكم والسياسة العراقية، لا في الداخل حسب، بل وأيضا باتجاه الدول العربية والدول الإسلامية والخارج ...quot; كما تتحمل إيران مسئولية كبيرة عن عمليات تهديد وقتل وتشريد وتهجير واختطاف أتباع الديانات الأخرى، ومطاردة عدد كبير من العائلات والعناصر الديمقراطية التي ترفض الانصياع لإيران. وقد سيطرت المليشيات الحزبية الشيعية الموالية لإيران على سلك الشرطة وتغلغلت في الجيش وفي المناصب الأمنية.
هذا هو الخطر الأكبر على العراق، كما أنه هو الخطر الأكبر على المنطقة كلها، وتشخيص ذلك لا يعني، ولا يجب أن يعني، تجاهل الأخطار الأخرى أو التساهل معها. وعندما تثير الحكومة ضجة عن الدور السوري، وهو موجود منذ سقوط صدام، فليس خافيا عليها أن النظام السوري هو الحليف.

لقد وجه أنصار الحكومة تهما ضد مثقفين عراقيين شيعة لكونهم ينتقدون الحكومة والتدخل الإيراني، فإما أن هؤلاء مباعون، أو أنهم يريدون البرهنة على كونهم غير طائفيين: هكذا! وكان ممن تعرضوا للحملة، مثلا، الكاتب التقدمي المعروف الدكتور كاظم حبيب، قبل سنوات قليلة لأنه نشر سلسلة مقالات موثقة عن الهيمنة الإيرانية، وسيادة الطائفية في البصرة. ولكن قبل هذا الكاتب وسواه كانت شخصيات شيعية معروفة قد رفضت محاولات quot;تعجيم شيعة العراقquot;، التي قامت بها إيران قبل الحرب. فمثلا، عندما نظمت إيران في طهران في مارس 2003 مؤتمرا من الأحزاب الشيعية العراقية، نشرت تلك الشخصيات تصريحات لصحيفة الدكتور أحمد الجلبي، quot;المؤتمر، رافضة المحاولة الإيرانية المسمومة. وقد نشرت quot;المؤتمرquot; تلك التصريحات في عدد 13 مارس 2003 بعنوان: quot;شخصيات معروفة ترفض محاولات مؤتمر طهران تعجيم شيعة العراقquot;. وكان من تلك الشخصيات السيد محمد بحر العلوم والسيد حسن الصدر والسيد محمد عبد الجبار والشيخ هيثم السهلاني. وتلخصت التصريحات المذكورة في رفض هدف اجتماع طهران، وهو quot;تعجيم دور هؤلاء الشيعة ليكون لهم ولاء مزدوج للوطن وللحاكم الإيرانيquot;،[ عن الصحيفة المذكورة].
لا يمكن التعويل على أحزاب الإسلام السياسي للخروج من مأزق الوضع العراقي. فهذه الأحزاب تتحمل مسئولية استثنائية عما وصل العراق إليه اليوم، وإن أداءها في السلطة قد سهّل، ولا يزال يسهل، مهمة كل أعداء العراق، المحليين والإقليميين. وإن من التهافت حقا مقارنة الوضع الراهن بأوضاع 14 تموز وسلسلة التآمر على الزعيم عبد الكريم قاسم. فهناك كتاب عراقيون ينشرون مقالات يروجون فيها لوجود مؤامرات على المالكي، كما كان قاسم يواجه المؤامرات. والحال أن الزعيم عبد الكريم كان يواجه مؤامرات لتدمير ثورة شعبية كان هو رمزها، وأما أوهام التآمر على المالكي فيقصد بعها صراع الديكة على منصب رئاسة الوزراء، وعرض القضية كما لو أن انتقال المنصب لغير المالكي هو مؤامرة على الشعب العراق! كتاب كهؤلاء يتناسون، مع الأسف، أن المالكي زعيم حزب إسلامي يبشر بنشر quot;الدعوة الإسلاميةquot; ونبراسه أحكام الشريعة، ومثاله إيران. وكان القائد الكبير للحزب، الراحل محمد باقر الصدر، يدين بمبدأ دولة ولاية الفقيه. أما عبد الكريم، فكان قائدا علمانيا لبراليا ويعشق الوطن والشعب بكل كيانه، وقد اغتيل دون أن يمتلك عقارا، وكان مثال التسامح الديني والمذهبي، وصديق المرأة وحاميها وراعي الفقراء- فشتان، إذن، بين زعماء أحزاب دينية وبين زعيم كعبد الكريم. إنه حقق للعراق وفقرائه وعمرانه ونسائه في فترة قصيرة منجزات كبرى، وكان حريصا على السيادة الوطنية التي هي وحدة واحدة لا تتجزأ. أما حكام ما بعد صدام، الذين ورثوا كل خرابه، فقد أضافوا خرابا لخراب وفسادا على فساد. وكان المنجز الكبير الوحيد للسيد المالكي هو الاستقرار النسبي أمنيا، وهذا أيضا قد تلاشى لأسباب معروفة: قوى الإرهاب، وتنازع الصلاحيات الأمنية، واختراق القوات المسلحة، والتعامل الاستعلائي مع القوات الأميركية. والمالكي كرئيس للوزراء يتحمل المسئولية الأولى عن التدهور الأمني المخيف.
لا تظلموا الزعيم عبد الكريم ظلما على ظلم، فقد كفاه ظلما أيها السادة!