يعيش علي أرض مصر شعب واحد يتكون من أغلبية تدين بالإسلام وأقلية مسيحية، وهذه الأقلية ليست عرقية أو سلالية (اثنية) أو لغوية، وهو الأمر الذي ميز شعب مصر بدرجة عالية من التماسك والاندماج الاجتماعي - Social Integration، علي أن هذا لا يعني أن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين قد خلت في هذه الحقبة أو تلك من الاحتكاك وأحيانا من الصراع.
وأسهمت مشروعات بناء الدولة المدنية الحديثة في مصر منذ القرن التاسع عشر، في صياغة نموذج متقدم للتكامل بين المسلمين والأقباط، خصوصا في عصر محمد علي، مما أدي إلي تولي اثنين من الأقباط منصب رئيس وزراء مصر سنة ١٩٠٨ وسنة ١٩١٩، وتولي قبطي رئاسة مجلس النواب.
غير أنه في الذكري المئوية الثانية لتأسيس الدولة المدنية الحديثة، وفي ذروة عصر العولمة، اسفرت انتخابات مجلس الشعب عام 2005، التي استخدم فيها الدين جهارا تحت شعار (الإسلام هو الحل)، عن نجاح 88 عضوا من جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم ثار السؤال الصعب عن مصير الدولة المدنية ndash; هذه المرة - عبر بوابة الديموقراطية!
لم تكن القضية هي quot; طبيعة quot; الدولة المدنية أو حتي مقوماتها، وإنما كانت بالأحري قضية العلاقة بين الدولة والدين، أو بين السياسة والدين، ذلك لأن هناك تناقض جوهري وأساسي بين الدولة المدنية والدولة الدينية، ولا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة الدينية، لأن العقيدة، أية عقيدة كانت، لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة، طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد. في حين أن الدولة المدنية تسمح لجميع المواطنين بممارسة عقائدهم بحرية ودون تمييز وبنفس الشروط، علي أساس حق الجميع في المواطنة بالتساوي.
لكن يبدو أننا نعيش quot; حالة فريدة quot; في مصر اليوم، لا هي دولة مدنية خالصة ولا هي دولة دينية كاملة. وبين استغلال الدين في العمل السياسي، للوصول إلي الحكم، مثلما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين، وبين استغلال النظام السياسي، للدين لترسيخ السلطة حتي ولو كانت منفردة، تحقيقا لأهداف سياسية وحزبية لم تستطع تحقيقها بالوسائل المدنية، يمكننا أن نستكشف مصادر المياة الجوفية التي أدت إلي تحلل التماسك الإجتماعي Social Cohesion، وتفكك هذا النسيج الواحد الذي ظلت مصر تتباهي به قرونا وسط شعوب المنطقة والعالم.

جدل الأقلية والأغلبية
تعبير الأقلية، في الأدب السياسي والدستوري، يشير إلي مجموعة غريبة تعيش في حمي وطن أو قوم يرعونها وهي، بالضرورة، منقوصة الحقوق والواجبات. إلا إن هذا التعبير لا يعني شيئا في بلد بوتقة، يتميز دستوره بالمساواة بين مواطنيه جميعا، نصا وفعلا. فأنت لا تستطيع الحديث ndash; من الناحية الدستورية ndash; عن الأقلية الزنجية في أمريكا، فهؤلاء أصحاب حق في الأرض لهم ما لأهلها كلهم من حقوق وعليهم ما علي أهلها جميعا من واجبات، ومنهم من أصبح رئيسا للولايات المتحدة اليوم وهو quot; باراك حسين أوباما quot;.
بيد أن تعبيري الأقلية والأغلبية أيضا اصطلاحان احصائيان لا معني لأي واحد منهما دون توصيف: فقد تشير الأقلية والأغلبية إلي الدين، وقد تشير إلي اللغة، وقد تشير إلي المنبت العرقي، وقد تشير إلي الجنس (الرجال والنساء). لهذا فإن الاختيار الانتقائي لمثل هذه الاصطلاحات لن يفيد الحوار الوطني في شئ بل يوقع الناس في محنة أبدية، فإن اختيار واحد، مثلا، الدين لتمييز أهل البلد فما الذي يمنع الآخر من اختيار الأصل العرقي؟
والواقع أنه منذ السبعينات حدثت تحولات سياسية وإقتصادية أساسية كان لها تأثيرها على سؤال الهوية والمواطنة في مصر. فقد رفع السادات مبكرا شعار quot; دولة العلم والإيمان quot;، كما يقول الدكتور عاصم الدسوقي: quot; في هذا المناخ الجديد بدأ الخطاب الإسلامي يتفوق على خطاب القومية العربية، وعندما كان الرئيس السادات يصرح بأنه حاكم مسلم لدولة إسلامية تشجعت تيارات التعصب...
وشد من أزر التيارات الدينية التي عرفت بالإسلام السياسي، العائدون من العمل بمجتمعات النفط، حيث حملوا في عودتهم قيم مجتمع البداوة وخلطوا بين الدين والبيئة، ودون اعتبار لوجود أصحاب العقيدة المسيحية من المصريين...هكذا انشطرت الهوية المصرية إلى هويتين: واحدة إسلامية للأغلبية، وأخرى مسيحية. وعاد من جديد استخدام مصطلح quot; أهل الذمة quot; الذين عليهم دفع الجزية عن يد وهم صاغرون...
من ناحية أخرى طالب التيار الديني بضرورة أن يتضمن دستور الدولة نصا بأن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع. وعندئذ ثار جدل كبير حول (تناقض النسبي والمطلق ومطلقية المصدر الاسلامي ليحكم وطنا ذو رقائق ومكونات متعدده لها تاريخية حضارية عميقة الجذور).. وهل تكون الشريعة المصدر الرئيسي أم الأساسي أم الوحيد أو أن تكون مصدرا وفقط بجانب مصادر آخري...
وتنتهي الثمانينات بحوادث الفتنة في أبو قرقاص (محافظة المنيا) ويتجدد الحديث عن الوطن الواحد، وحقوق المواطن ووضع الأقليات. وتسارع السلطات باستحضار وحدة الهلال والصليب أثناء ثورة 1919...quot;

تكريس الطائفية
تزامن مرور 75 عاما علي ثورة 1919 مع دعوة الدكتور سعد الدين إبراهيم rlm;(1994) إلي مؤتمر الإعلان العالمي لحقوق الملل والنحل والأعراق في الوطن العربي والشرق الأوسطrlm;، ووضع الأقباط مع كل من الأكراد في العراق، والبربر في المغرب العربيrlm;،rlm; والدروز في إسرائيلrlm;،rlm; والأرمن في لبنانrlm;.
وقامت القيامة في بر مصر المحروسة، حيث أعلن الكثير من السياسيين والمثقفين رفضهم لإقحام المصريين الأقباط في إطار ندوة عن الأقليات في الوطن العربي، معتبرين إن مثل هذه النظرة خاطئة بل وشديدة الخطر علي مستقبل الشعب المصري الواحد، وهي محاولة مأجورة تتنـكر للتراث المصري الخالد الذي صنعه المصريون جميعا وتعاونوا معا في مواجهة ما أعترضه من صعابrlm;.
وتصدي له حينذاك أثنان من عتاولة الكتاب، الأول هو الأستاذ محمد حسنين هيكل، والثاني هو الدكتور وليم سليمان قلادة. ويجمل المقال الذي نشرته الأهرام في عدد الجمعة rlm;22-4-1994 وعنوانهrlm; quot; أقباط مصر ليسوا أقلية وإنما جزء من الكتلة الإنسانية الحضاريةrlm; quot; للأستاذ هيكل، رأي الرجلين معا، والمزاج المصري العام أيضا.
وكان لدخول البابا شنودة نفسه علي الخط أثره البالغ في حسم الأمر، فقد صرح مسئول المكتب الإعلامي بالمقر البابوي بأن قداسة البابا شنودة أعلن بإسم الأقباطrlm;:rlm; quot; نحن مصريونrlm;-rlm; جزء من شعب مصرrlm;-rlm; ولسنا أقلية في مصرrlm;، ولا أحب أن نعتبر أنفسنا أقليةrlm;،rlm; ولا أن يسمينا البعض أقلية فكل من عبارة أغلبية وأقليةrlm;، إنما تدل في أسلوبها علي التفرقة والتمييز أو التمايز بالنسبة إلي البعضrlm;، وهذا لا يليق بالنسبة لأبناء الوطن الواحد وخصوصا في مصر المحبوبةrlm; quot;.rlm;
rlm;وتحت ضغط هذا الرفض العام،rlm; نقل إبراهيم مؤتمره إلي قبرص، ليخرج من رحمه بعد ذلك العديد من المؤتمرات في العالم، وفي المقدمة منها مؤتمرات أقباط المهجر، أذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر، زيورخ 2004 للمهندس عدلي أباديرrlm;، واشنطون 2005، زيورخ 2006، نيويورك 2006 وشيكاغو 2007 للمهندس كميل حليم.
لقد أدرك إبراهيم بغريزته السياسية، مبكرا، أن معظم دول منطقة الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل، لم تستوعب بعد التطورات العالمية المتسارعة، وتتجاهل عن عمد القضايا الإنسانية الناجمة عن عدم حل مشكلة الأقليات، بل وتنكر وجود هذه الأقليات أصلا بزعم أن هذه الأقليات من نسيج واحد ولحمة واحدة مع الأغلبية في الوطن، مؤكدة علي أن الدستور ينص ويقرر مساواة جميع المواطنين أمام القانون، بصرف النظر عن اللون أو الدين أو الجنس.
وجاءت تقارير حقوق الإنسان والحريات الدينية المتتابعة، حتي عام 2009، لتكشف الفجوة الرهيبة بين النصوص والممارسات في معظم دول المنطقة، مؤكدة علي ان الحرية الدينية جوهرية لسبب بسيط هو quot; أنها تدعم منظومة الحريات الأساسية الأخرى، التي تشكل الدين الجديد لحقوق الإنسان، فهي متصلة اتصالاً عضوياً بحرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتماع، وحق الأختلاف، وحق الخطأ أيضا quot;.
وحتي نتفهم المزاج العام في مصر عام 1994، ولا نسارع بإتهام أحد بقصور الرؤية والرأي، فإن للقصة أبعاد أخري. فلم تكن المثالية ولا الرومانسية هي التي جمعت بين هيكل وقلادة علي قلب رجل واحد، ليكتبا نفس الكلام تقريبا علي صفحات جريدة الأهرام: quot; أقباط مصر ليسوا أقلية quot;، وإنما خوفهما الشديد علي وحدة نسيج الشعب المصري، وحرصهما الصادق علي مستقبله، منعهما من تصديق أي صوت آخر، ينذر ويحذر من تفكك هذا النسيج أو حتي ينبئ بدوبانه، وهي حالة إنسانية خالصة، يغيب فيها العقل للحظة رغم حضوره الظاهر، خاصة حين تقع كارثة quot; تفوق العقل quot;، كموت عزيز مثلا، وحينئذ يغلق العقل مسامه، رافضا تصديق ما يراه بعينيه وما يسمعه بأذناه.
مات وليم سليمان قلادة (صاحب مدرسة حب الوطن) عام 1999 وفي حلقه غصة من الأحداث الطائفية المتفرقة هنا وهناك، وأصبح يناشد quot; الأغلبية الصامتة quot; من المسلمين والأقباط، كلما أمكن ذلك، علي صفحات جريدة الأهرام أيضا، بالخروج عن صمتهم، لأن أمن الوطن بات مهددا. ولم يشهد أو يشاهد التطورات الدرامية الأخيرة في المنطقة بعد 11 سبتمبر 2001، والتي دفعت هيكل إلي التحذير من نزيف هجرة المسيحيين العرب من الشرق الأوسط، في محاضرته بنادي القضاة النهري، مايو 2008.
ملحوظة: لاقى المسيحيون فى أواخر القرن الثالث الميلادى الإضطهاد على يد الإمبراطور دقلديانوس وقد اطلق على هذه الفترة عصر الشهداء لكثرة من استشهد فيها من الأقباط. واتخذ القبط من السنة التى اعتلى فيها دقلديانوس العرش (عام 284 م) بداية للتقويم القبطى، وإذا جمعت عزيزي القارئ 1726 + 284 = 2010 العام الذي استشهد فيه 6 من الأقباط ومسلم واحد في نجع حمادي في صعيد مصر ليلة الاحتفال بعيد الميلاد 7 يناير حسب التقويم الشرقي، أما إذا أردت معرفة الأسباب الحقيقية، ولماذا لم ينتهي عصر الأستشهاد بعد، أرجوك أن تعيد قراءة المقال من جديد.

[email protected]