كانت إنتخابات البرلمان الكردستاني التي جرت في 25/7 من العام الماضي مؤشرا بقرب تداعي صفوف الإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس جلال طالباني. وبرغم أن الفوز الكبير الذي حققته حركة التغيير في تلك الإنتخابات والذي وصل الى نسبة مقاربة جدا للحزبين المتحالفين بالقائمة الكردستانية quot; الإتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزانيquot; إعتبرها الكثيرون من قادة الإتحاد حالة quot; فورة غضبquot; سرعان ما تزول، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك.

وكانت قراءة متأنية لنتائج تلك الإنتخابات كافية لقادة الإتحاد لمراجعة أنفسهم، بل وبمحاسبتها بعد التدقيق والتمحيص في أسباب تلك الهزيمة التي لحقت بهم في معقلهم الرئيسي على يد حركة لم تكد تكمل شهرين من عمر تشكيلها، فيما يمتد التاريخ النضالي للإتحاد الوطني الى عشرات السنين، فكان حريا بقادة الإتحاد أن يستغلوا تلك الفترة الممتدة بين إنتخابات كردستان وإنتخابات العراق والبالغة سبعة أشهر لتدارك الوضع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من شعبيته المتداعية، ومحاولة إستعادة ثقة الشارع الكردي، ولكن الذي حصل كان العكس من ذلك تماما، فقد إنشغل بعض قادة الإتحاد الذين كانوا السبب الرئيسي لإنتكاسة حزبهم وساهموا بفسادهم وخداعهم في إبتعاد الجماهير عنهم، بإطلاق العنان لتصرفات صبيانية غير منضبطة، تمثلت في قطع أرزاق أنصار التغيير وطردهم من وظائفهم ومناصبهم، ومضايقة أنصار الحركة في كل مكان بحملات بوليسية يندى لها جبين الإنسان، فأحلوا المآسي ببيوت الآلاف من ابناء هذا الشعب الذين حرموا في لحظة إنتقام غير مشروع من كل ما كانوا يملكون من رواتب يعتاشوا منها ويعيلون بها أطفالهم. وهذه التصرفات الوظيعة أدت الى زيادة الغضب الشعبي على قادة الإتحاد دون أن تحل أصل المشكلة التي وقعوا بها.

لقد سبقني الكثيرون من الكتاب والمثقفين في الحديث عن أن الضرورة كانت تتطلب منذ خروج السيد نوشيروان مصطفى من صفوف الإتحاد الوطني وتشكيله لحركته السياسية باسم التغيير، أن يتقرب الإتحاد الى هذه الحركة، وأن يحاول التعايش معها وتتقبلها كحركة قريبة على أهداف ومباديء الإتحاد الوطني، بإعتبار أنصارها جزءا من الإتحاد الوطني، ولكن قادة الإتحاد إرتموا أكثر فأكثر في أحضان غريمهم التاريخي، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني متنكرين لرفاق دربهم الذين شيدوا صرح الإتحاد الوطني بجهودهم وعرقهم وبدماء أخوانهم، فتحول هذا الغريم في لحظة الى منقذ مفترض للإتحاد الوطني من نكسته، ولكن حسابات قادة الإتحاد كانت خاطئة مرة أخرى، فلم تستظل خيمة هذا الغريم الإتحاد الوطني كما توقع قادته، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي إجراء الإنتخابات البرلمانية الأخيرة بالقائمة المفتوحة، وبذلك فإن الديمقراطي الكردستاني حصد الأكثرية وضمن له عددا كبيرا من المقاعد عبر التصويت لمرشحيه، مقابل إخفاق مرشحي الإتحاد الوطني الذين ظهر فقدان شعبيتهم بشكل واضح عبر هذه الصيغة في الإنتخابات، ففشلوا في الفوز بالمقاعد اللازمة لإستعادة شعبيتهم المنهارة. وبذلك أصبح من حق الديمقراطي الكردستاني أن يعيد بدوره حساباته القادمة، ويعيد رسم تحالفاته المستقبلية من خلال كسب حلفاء جدد ممن لديهم سطوة ونفوذا على الساحة السياسية الكردستانية، فهو كحزب من حقه أن يتحالف مع الأقوياء من أمثاله، وليس مع من لا حول له ولا قوة، لكي يضمن بقائه سيدا على الساحة الكردستانية.

وفي مطلق الأحوال ليس من واجب الديمقراطي الكردستاني أن يحاول نيابة عن الإتحاد الوطني إستعادة شعبية مفقودة لغريمه التقليدي، وأعتقد بأن هذه الإنتكاسة التي لحقت بالإتحاد الوطني ستفرح كثيرا هذا الغريم التاريخي، وكما يقال فأنه ليس في السياسة صداقات دائمة بل هناك مصالح دائمة، ومن هذا المنطلق فمن حق الديمقراطي الكردستاني أن يبحث عن حلفاء جدد أكثر قوة وشعبية من الإتحاد الوطني، على الأقل ليضمن لنفسه البقاء حاكما على كردستان، وتعزيز مواقفه في بغداد، خصوصا وأن اللعبة البرلمانية تتطلب الأكثرية.

في هذا الحال ليس أمام الإتحاد الوطني سوى سبيل واحد لا غيره،وهو سبيل قد يعيد بعض ما فقده الإتحاد الوطني من شعبيته داخل المجتمع الكردستاني، وهو المبادرة بإجراء تغيير جذري وشامل بصفوف قيادة الإتحاد الوطني وليس ترتيش أو تجميل بعض الوجوه الكالحة التي أفسدها الفساد، وهي وجوه البعض من مصاصي دماء الشعب الذين تجردوا من ضمائرهم وإنسانيتهم. فمن ينظر الى وضع السليمانية وهي كانت المعقل الرئيسي للإتحاد الوطني ويقيسها بوضع أربيل الخاصعة لسيطرة غريمه الديمقراطي الكردستاني فلا يجد وجها للمقارنة بينهما، خصوصا لجهة تقديم الخدمات ومشاريع الإنماء، ففي حين أوصل الديمقراطي الكردستاني مشاريع الإعمار والبناء والخدمات الى أعلى مستوياتها منذ سقوط النظام السابق وتدفق المليارات على الإقليم من بغداد على رغم وجود حالة الفساد هناك، كانت تخصيصات المشاريع في السليمانية التي لم تكن بأقل كثيرا عن تخصيصات أربيل تذهب الى جيوب حفنة من الطفيليين والفاسدين، وهذا ما أوصل الغضب الشعبي في السليمانية الى حد المقاطعة الجماهيرية للإتحاد الوطني والتنكر لكل نضالاته والدماء التي جاد بها على طريق التحرير.

السبيل الى إنتشال الإتحاد الوطني من محنته الحالية تكمن في عدة نقاط من أهمها، الإسراع قدر الإمكان بعقد المؤتمر التنظيمي الثالث للإتحاد، وإستغلال هذا المؤتمر للقيام بحملة تطهير واسعة النطاق لطرد العناصر المفسدة من صفوفه، والإتيان بالوجوه الشابة المقبولة بدل الأهرامات التي تحكمت بقيادة الإتحاد منذ نشوئه ولحد اليوم.

وأن تنازل الأمين العام السيد طالباني عن مسؤولياته الحزبية، طالما أنه سيتفرغ في السنوات الأربع القادمة لرئاسة العراق، وترك شؤون إدارة الإتحاد بيد القيادة الجديدة التي ستأتي عبر المؤتمر التنظيمي أمرا مطلوبا، وقد يكون نائب الأمين العام الحالي برهم صالح أحد أفضل القياديين المقبولين شعبيا لتسلم رئاسة الإتحاد وقيادته خلال المرحلة القادمة، خصوصا وأنه رجل ما زال محتفظا بطهر يده، ولم يتورط بالفساد المستشري في أوصال الإتحاد الوطني، كما أن تجاربه وكفائته الإٍستثنائية في إدارة الأزمات، وخبراته الدبلوماسية ستساعد بمجملها في إعادة تشكيل الحزب من جديد على أساس العمل بإتجاه مصلحة الجماهير وليس لمصلحة شرذمة أو حفنة من المنتفعين والطفيليين والمفسدين.

إن هذا المشروع الإصلاحي المقترح يجب أن لا يكون على حساب معاداة حركة التغيير التي أصبحت حركة مطلوبة جماهيريا،وأن يتقبل المشروع وجود هذه الحركة وأن يتنافس معها سياسيا وحضاريا ومدنيا، فالساحة الكردستانية وبفضل الحالة الديمقراطية التي تعيشها تستوعب الجميع، ويبقى الحصول على ثقة الناخب الكردي هي الأساس في المنافسة السياسية بالمراحل القادمة، خصوصا وأن ثقافة الإنتخابات أصبحت اليوم متجذرة في المجتمع الكردستاني ولم يعد هناك أي قيمة أو ضرورة لإمتلاك الأرض والسلاح، فالحرية المتحققة في كردستان إخترقت جميع الحدود وأصبحت صناديق الإقتراع هي الحكم الفصل..