إقدام قناة الجزيرة على الخوض في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، لا ينطلق من رغبة في إفادة مشاهديها وتنويرهم بحقائق التاريخ، إنما هو محاولة دنيئة لتصفية حسابات سياسية وايديولوجية مع من تصنفهم الحركات الإسلامية، وفي مقدمتهم حركة النهضة التونسية، خصومها الأبديين، على غرار الرئيس الزعيم الحبيب بورقيبة، الذي شكلت سيرته هذه الأيام، مرمى أحجار وسهام خبيثة، ترفع زورا وبهتانا قميص quot;فرحات حشادquot; الزعيم النقابي والوطني الكبير، الذي اغتالته حركة quot;اليد الحمراءquot; الاستعمارية الفرنسية المتطرفة سنة 1952، لكنها تريد باطلا يتغيى النيل من هامة مؤسس دولة و باعث أمة.
قناة الجزيرة غير بريئة أو محايدة حين تتناول شأنا تونسيا، لأنها واقعة تحت هيمنة الإخوان المسلمين، تماما كما أن إدارتها واقعة تحت تأثير عناصر قيادية في حركة النهضة التونسية، أما الشريط الوثائقي (المحسوب على الأفلام الوثائقية خطأ) فمنتجه المنفذ قيادي بارز في الحركة الإسلامية التونسية، ومخرجه من الموالين لها، ولم يعرف أنه أخرج فيلما وثائقيا من قبل، ولهذا فلا غرابة أن يأتي عمله مخلا بأبسط قواعد العمل التوثيقي السينمائي، كغالبية الأعمال المصنفة كأفلام وثائقية و التي تنتجها شبكات الجزيرة ضمن سياق عملها الحزبي الفئوي، من خلال سلسلة من شركات الانتاج التي شجعت الحركات الإسلامية أتباعها على تأسيسها في عدد من الدول، و شكلت خلال الفترة الماضية للصحافة القطرية والعربية محورا للتساؤل والتحقيق بحكم شبهات الفساد التي أثيرت حولها.
و بالنظر إلى برنامج الإنتاج الذي أعلن من قبل مخرج شريط حشاد ومنتجه المنفذ لصالح الجزيرة في الفترة القادمة، حيث ذكر أن الشريطين القادمين سيخصصان للزعيم الوطني صالح بن يوسف و أحداث 26 جانفي سيئة الذكر، فإن كل عارف بالشؤون التونسية، سيتأكد من أن الأمر لا يتعلق بقراءات في فصول من التاريخ التونسي المعاصر، بقدر ما يتصل بتسخير حركة النهضة لوسيلة إعلامية بحجم الجزيرة، من أجل الإمعان في تشويه صورة الرئيس الزعيم الحبيب بورقيبة.
و لا شك أن النهضويين التونسيين قد وجدوا مباركة من القيادة النقابية التونسية وغض نظر من قبل السلطة، لالتقاء في المصالح بين هذه الأطراف في مواجهة البورقيبية، فالقيادة النقابية تريد أن تصرف الأنظار عن فشلها و تصاعد غضب القواعد العمالية منها بالمزايدة الديماغوغية في قضية مقتل الزعيم حشاد، أما السلطة فقد ثبت في أكثر من مرة خوفها من الرئيس الزعيم بورقيبة حيا وميتا، لأنها تدرك أن البورقيبية وحدها التي يمكن أن تشكل قاعدة لأي تغيير إصلاحي ممكن قادر على الإقناع داخليا وخارجيا، تماما كما تدرك أن النهضة لا يمكن أن تشكل يوما بديلا لها، وأنها أفضل من يلعب دور البعبع أو الفزاعة، الضروري للاستثمار و البقاء.
و بالعودة إلى صلب الموضوع، فلا مناص من القول بأن الذي يفصل المرحوم فرحات حشاد عن الحركة الإسلامية التونسية في الرؤية والفكر والوسيلة لا يقل اتساعا عن ذلك الذي يفصلها عن الرئيس الزعيم بورقيبة، فقد كان حشاد أقرب في نفسه و عمله إلى اليسار، وما المجهود الذي يبذله البعض من باب الحذلقات لإثبات صلة بينه وبين الرؤية الدينية، إلا سخف وهراء، فليس لأن الرجل قد قال مرة quot;إن شاء اللهquot; يصبح إسلاميا، فقد كان الرئيس الزعيم بورقيبة من أشد الناس حرصا ليس على مجرد قول quot;إن شاء اللهquot;، بل على الاستشهاد بالآيات القرءانية والأحاديث النبوية، ومع ذلك فهو في نظر الإسلاميين عدو الله والدين والملة، لا يجوز الترحم عليه، كما هو وارد في حق سائر المسلمين.
إن مقتل فرحات حشاد على يد اليد الحمراء مسألة محسومة تاريخيا، باعتراف أورده شريط الجزيرة نفسه، وإذا كان تقدير فرنسا أن بورقيبة أنسب من غيره للحكم، فهذا ليس ذنب بورقيبة أو يمكن أن يصنف كدليل ضده، فقد مارس جميع قادة الحركة الوطنية العمل النضالي السياسي السلمي و استعملوا في عملهم آليات مد وجزر و هجوم ودفاع وسائل تكتيكية عديدة، بل لقد ثبت أن الزعيم صالح بن يوسف اتصل بالفرنسيين و حاول إقناعهم بأنه الأفيد لمصالحهم من غريمه الرئيس الزعيم الحبيب بورقيبة، ولم يكن ذلك دليلا على قلة وطنيته أو أداة للقدح في ذمته.
أما الزعيم فرحات حشاد فقد كان أسس تجربته النقابية ضمن النقابات الفرنسية النشيطة في ذلك الوقت في الصفوف الطبقة العاملة التونسية، ولم تعرف عنه أية مزايدات في موضوع الهوية العربية الإسلامية لتونس، من فصيل المعروف لدى الإسلاميين، وكان الرجل الذي اختاره لخلافته على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل الزعيم أحمد بن صالح، الذراع الأيمن للرئيس الزعيم بورقيبة لما يقارب عقدا من الزمان، فهل تراه كان عالما بأنه قاتل حشاد وساكت عليه.
إن محاولة تمجيد الإسلاميين التونسيين لزعامات وطنية من قبيل حشاد أو بنيوسف، لا ينبع من ارتباط بقيم أو أطروحات الحركة الوطنية التونسية، إنما غايته الانتقام من صورة الرئيس الزعيم بورقيبة، فقد كان حضور الإسلاميين في الحركة النقابية التونسية خلال ثمانينيات القرن العشرين أكثر عوامل إضعافها، أما محبتهم لابن يوسف فلا مفسر له غير كراهيتهم لخالد الذكر العمياء، لأن ابن يوسف لم يكن إسلاميا و لا قوميا عربيا، حيث لم يتردد الرجل في قمع أعضاء حركة صوت الطالب الزيتوني (التي يمجدها الإسلاميون) عندما تولى الوزارة في بداية الخمسينيات، كما أن قرابته من عبد الناصر كانت بسبب بحثه عن حلفاء خارجيين في معركته ضد الرئيس الزعيم بورقيبة، وليس بسبب توجهاته الوحدوية أو التصاقه بثوابت الهوية العربية الإسلامية مثلما يحاول النهضويون تصوير الرجل.
و إن كل حديث مزايد عن أن الرئيس الزعيم الحبيب بورقيبة كان على علم بقرار تصفية الزعيم فرحات حشاد أو أنه كان راغبا في ذلك، هو من باب الانتهاكات الرخيصة للأعراض، حتى تظهر الحجة الدامغة، فما هو ثابت أن خالد الذكر كان منفيا في جالطة آنذاك (وهي صخرة بحرية صماء لا تصلح للعيش الآدمي، ولم يكن يتبختر هناك مثلما أورد أحد المتحذلقين من قراء التاريخ على المقاس من الإسلاميين، مثلما هو ثابت أن فجيعة الرئيس الزعيم في أحد أقطاب الحركة الوطنية كانت كبيرة، على نحو ما أكد في أكثر من واقعة وخطبة ومناسبة.
وعموما فإن تصوير الشهيد حشاد على أنه كان منافسا ممكنا للحكم للرئيس الزعيم بورقيبة، لا يعدو أن يكون وهما من الأوهام الكثيرة التي يروجها أعداء البورقيبية، فالشهيد كان زعيما نقابيا ولم يكن زعيما سياسيا، وغاية الحركة النقابية الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، أما غاية الحركة السياسية فالحكم والسلطة، والجميع يعلم أن مؤهلات بورقيبة الفكرية والسياسية و زعامته للحركة الوطنية لم تكن محل منافسة، إنما محل إجماع، أما وقد ظهرت الحركة الإسلامية أواخر السبعينيات، طارئة على الواقع التونسي، دخيلة عليه باعتراف زعيمها، منبتة في أسسها عن تلك التي جاهدت الحركة الوطنية التونسية من أجل تثبيتها، فقد عاد مفروضا على التونسيين أن يقرأوا تاريخهم مفصلا على مقاس من قيض لهم الله أمر الجزيرة، التي نسأل الله أن يفك أسرها مثلما فك أسر مؤسسات أخرى كانت إلى يوم قريب على شاكلتها.