على هامش المقال:
زرت بغداد لمدة اسبوع نهاية شهر فبراير 2010، أي قبيل الانتخابات البرلمانية بقليل، وقد طلب مني الصديق الاستاذ عبد اللطيف الفراتي عميد الصحفيين التونسيين كتابة مقال عن هذه الزيارة لصالح مجلة quot;المغرب الموحدquot; (عدد 1 مايو 2010)، التي تصدر من العاصمة التونسية وتحاول مخاطبة جمهور مغاربي أظنه يجهل الكثير عن الشأن العراقي، رغم كل الصخب الذي تحدثه الآلة الإعلامية الديماغوغية، فكان هذا الرأي الذي آثرت اليوم أن أنشره في إيلاف الغراء تعميما للنقاش و تثبيتا للموقف.

المقال:

سنة 2001 قررت الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي عقد دورته الحادية عشرة في بغداد، في محاولة من الحركة القومية العربية لنسيان انقساماتها والتوحد في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني الجديد في المنطقة العربية، الهادف برأي جل القوميين العرب إلى القضاء على أية محاولة نهضوية حقيقية، ومثالها البين برأيهم تلك التي عمل صدام حسين على القيام بها في العراق.
في تلك السنة كنت الوحيد من بين أعضاء المؤتمر، الذي جاهر برفض حضور مؤتمر بغداد، انسجاما مع قناعاتي الفكرية والسياسية، فانتمائي للمؤتمر القومي العربي لم يكن من منطلق أني quot;قومي عربيquot; بالمعنى التقليدي المتعارف عليه طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، أي أنني لم أكن يوما ناصريا أو بعثيا، كما لم أكن منذ وعيت السياسة عضوا في حزب قومي عربي، أو حتى متعاطف مع أطروحات ميشيل عفلق أو عصمت سيف الدولة، بل لقد كان انتمائي للمؤتمر اقتناعا مني بأنه شكل تحولا فكريا وسياسيا في تاريخ الفكر العربي المعاصر، أهم معالمه الربط بين مشروع الوحدة العربية و المشروع الديمقراطي العربي.
من هذا المنظور، آمنت من أعماقي بأن الديكتاتورية هي أهم معوقات العمل الوحدوي العربي، وبأن نظام صدام حسين على وجه التحديد قد أضر بالمصالح القومية العربية وبالعلاقات العربية العربية، أكثر مما أضرت بها المخططات الامبريالية والصهيونية على ضراوتها، و بكلمات موجزة فإنني لم أصدق يوما أن نظاما يعتقل ويسجن و يسحل مواطنيه ظلما وعدوانا، ويمنع الحريات ويلغي الأحزاب و يبث أصنام الأخ القائد في كل ركن وزاوية، يمكنه أن يقيم نهضة حقيقية أو يصنع تقدما فعليا، فالإنسان برأيي هو قوام النهوض الحضاري وركيزته الأساسية، وليس بمقدور مواطن فاقد للكرامة كذلك الذي صنعه صدام حسين، أيديه مرتعشة وقلبه يرتجف وعقله مغيب، أن يربح معركة أو يصد عدوانا.
في سنة 2005، عقد المؤتمر دورته السنوية في الجزائر، وكانت آخر دورة أحضرها، وكان العراق بالنسبة لي مرة أخرى القضية المحورية التي خالفت فيها الأغلبية، فقد كان رأيي أن العراق الجديد الذي بدأت ملامحه تتشكل تحت الاحتلال الأمريكي، لا يجب أن يترك وحيدا، و أنه سيكون من الغباء السياسي ndash; الذي أدمن العرب فيما يبدو على اتيانه منذ الستينيات- أن ينظر إلى المصلحة القومية العربية من زاوية فئوية وحزبية ضيقة، فسقوط حزب البعث كما اعتقدت لم يكن سقوطا لمشروع قومي عربي، و تبدل المعادلة السلطوية العراقية لا يجب أن يحول القوى السياسية الصاعدة في العراق المحتل إلى حركات معادية للعروبة.
كان رأيي وما يزال، أن أحزابا مثل المجلس الإسلامي الأعلى و حزب الدعوة والحزب الإسلامي، ليست قوى سياسية معادية لهوية العراق العربية، وأن مد اليد لها سيخفف من اعتمادها على ضمانات المحتل الأمريكي، وسيحملها مسؤولية أكبر تجاه مستلزمات الانتماء العربي للعراق، خصوصا وأن انضمامها إلى مشروع التغيير الذي قادته الولايات المتحدة كما هو معروف كان من منطلق برغماتي، و لم يكن من باب العمالة أو الخيانة مثلما حاولت أدبيات قومية لاحقا تصويره للشارع العربي.
قلت لقادة المؤتمر القومي العربي في ذلك الوقت، وفي مقدمتهم الاستاذ خير الدين حسيب والاستاذ معن بشور، إذا لم تكونوا قادرين على التواصل مع قادة العمل السياسي في العراق الجديد، من قبيل السيد عبد العزيز الحكيم و ابراهيم الجعفري ونوري المالكي وطارق الهاشمي وغيرهم، لاعتبارات نفسية وشخصية وسياسية، فكلفوا من أجيال القوميين العرب الجديدة من يقوم بمهمة الاتصال وتحقيق التواصل بين المشروع القومي العربي و مشروع العراق الجديد الديمقراطي، لكن نصحيتي كانت فيما يبدو في غير مقامها أو وقتها، لم تجد من يقدرها فحسب، بل نلت لأجلها من الاتهامات العربية الكلاسيكية ما لا يحصى.
هذه كانت معالم رحلتي الزمانية إلى العراق الجديد، أما معالم رحلتي المكانية لهذا القطر العربي العزيز فلم تتشكل إلا قبل أسابيع قليلة، بدعوة كريمة من مؤسسة الحكيم الثقافية، حيث لم أشعر طيلة أسبوع من الإقامة في بلاد الرافدين بأي إشارة تلميحا أو تصريحا، تدل على وجود لائحة تضم أشخاصا غير مرغوب في لقائهم أو جهات يفضل عدم التواصل معها، بل لقد حرص المضيفون منذ لحظة وصولنا على تأكيد الطابع الوطني للزيارة، فقد كنا برأيهم ضيوف العراق وليس ضيوف شخص أو حزب أو طائفة.
أول الملاحظات التي أود إسداءها، أن العراق الحديث، وتحديدا العراق الجمهوري الذي أقيم بعد انقلاب عبد الكريم قاسم سنة 1958، مجهول بالنسبة لغالبية العرب، وقد زاد الجهل به طيلة فترة حكم صدام حسين، على الرغم من كل الضجيج الإعلامي وصخب الشعارات القومية العربية التي رفعها نظام البعث، فجراء طبيعة النظام المخابراتية والحروب المتلاحقة ضد دول عربية وإسلامية، وخصومات لا تنتهي مع أنظمة شقيقة وصديقة، فرض حصار رهيب على هذا البلد وعلى أهله، وعاد الداخل إليه طيلة سنوات شبه مفقود والخارج منه شبه مولود.
وما لمسته في مجالس فكرية وثقافية حضرتها في بغداد والنجف وكربلاء، أن معرفة مثقفي العراق ونخبه، شعراء وكتاب و أدباء ونقاد، بالعالم العربي محدودة، وأن اطلاعهم على انتاج نظرائهم و معرفتهم بأحوال أشقائهم شبه معدومة، ومرجع هذا الجهل المتبادل طوق الخوف الذي ضرب عليهم أيام صدام، وانغماسهم في الشأن الداخلي وترتيب البيت المحلي وإعادة بناء مؤسساتهم ومنظماتهم بعد سقوطه.
كانت أول محطاتي البغدادية حضور مجلس quot;آل الربيعيquot;، وهو من أعرق المجالس الأدبية والفكرية العراقية، يعقد شهريا بحضور عدد كبير من وجهاء العراق السياسيين والثقافيين، ولم أجد مدخلا لكلمتي فيه أفضل من الحديث عن رمز الحركة الوطنية التونسية الشيخ عبد العزيز الثعالبي، الذي أقام في بغداد بين سنة 1924 و1930، مدرسا الفلسفة الإسلامية في جامعة آل البيت التي أسسها الملك فيصل الأول رحمه الله، وصاحب مجلس مشهور في دار السلام، قيل أنه ثاني أهم المجالس العراقية في حينها، بعد مجلس العلامة الآلوسي.
لقد كان العراق على تلك الأيام التي احتضن فيها الشيخ الثعالبي، ملجأ الكثير من الأحرار العرب، من العاملين على تحرير بلادهم، وكانت أجواؤه السياسية أجواء انفتاح وليبرالية ونهضة فكرية وأدبية، أنتجت الكثير من أعلام الفكر والشعر والأدب، لعل من أهمهم الشاعران معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، وتميزت بحرية كبيرة للعمل الصحافي والحزبي، وللجدل حول قضايا الدين والأمة، خلافا لما سيسود في عصر الجمهوريين من إلغاء لكل مظاهر التنوع في الحياة والتبشير بحقيقة واحدة هي تلك التي تصدر عن قريحة الأخ القائد الملهم الذي لا ينطق عن الهوى.
أما خلال محطتي الثانية، التي كانت قاعة الجلسات في اتحاد كتاب العراق، فقد استهوتني فكرة الحديث عن أهمية الحرية في حياة المبدع، التي تتقدم كما أرى على نعم إلهية أخرى تستحق أن يحمد الله عليها، ومن بينها الخبز بطبيعة الحال، فقد أضحى كتاب العراق وفنانوه اليوم قادرين على التركيز في كتاباتهم وفنونهم على الإبداع فقط، أي غير ملزمين ببدأ كتبهم أو كلماتهم بديباجات مدحية لا صلة لها بالموضوع، أو تحبير قصائد عصماء تشيد بعبقرية الملهم لكي تفرش الطريق لقصائد أخرى في الحب والغزل وأغراض أخرى، وقد وجدت لدى هؤلاء الكتاب عتبا على زملائهم في سائر الأقطار العربية، لوقوعهم كما يقولون ضحايا آلة دعائية وشعارات جوفاء لا تستند إلى وقائع عملية، فلم أجد في مواساتهم إلا دعوتهم إلى المثابرة في إيصال إبداعاتهم صادقة كما هي، ففي ذلك خير رد وأفضل تقويم.
محطتي الثالثة كانت نجفية، فقد شرفني مرجع التقليد آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، وهو ثاني أهم مراجع التقليد الأربعة في الحوزة العلمية بعد السيد علي السيستاني، باستقبالي مرتين، وكانت لي معه حوارات و مراجعات في مواضيع فكرية إسلامية، منها ما اتصل بالمذهب الشيعي، أو مذهب آل البيت مثل يفضل الشيعة التوصيف، ومنها ما كان له صلة بالتاريخ الإسلامي، وخصوصا مكانة الأشراف من آل النبي (ص) في بلاد المغرب العربي.
و لعل النجف و حوزته العلمية وشيعة العراق من أهل العروبة ومراجع التقليد والسادة من سلالة الرسول الأعظم (ص) وحقيقة العلاقة مع الجار الإيراني، كلها من مجالات التقصير في استقصاء المعلومة أو نقلها، على نحو أثر على موقف العرب من الشؤون العراقية، وشوش الصورة في مخيلة الكثيرين، الذين ظنوا لعقود ربما أن أصل العراقيين من أتباع المذهب الشيعي الاثنى عشري إيراني، و هم عرب أقحاح من قبائل قريش و تميم وبكر ووائل و شمر وجبور وسليم وهلال، وأن حوزة النجف هي الأصل في التحصيل الشيعيي، أما حوزة قم الإيرانية فثانية في المكانة والرمزية.
خلاصة رحلتي إلى العراق، زمانيا ومكانيا، أن بلاد الرافدين غنية، ليس فقط بموارد النفط والطبيعة، إنما أيضا بعبقرية الروح و قوة الرمز وتميز الإنسان، ولا شك أن دورا كبيرا للعراق في انتظاره عربيا، لكن هذه المرة تبشيرا بقيم أخرى، أكثر تركيزا على الأعمال من الشعارات، و أكثر ارتباطا بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، من اختلاق الحروب والأزمات بين الأشقاء والأصدقاء..وإلى رحلة أخرى.