بينما أيدت لجنة المتابعة العربية إجراء مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، خرج الوزير السوري المشارك، مصرحا علنا بمعارضته، ومتهما اللجنة بتخطي صلاحياتهاّ!
النظام السوري هو أحد الأطراف المسئولة عن عرقلة الحلول السلمية العادلة لقضية الشعب الفلسطيني، وما أدى ذلك إليه من استفحال التعنت والغطرسة الإسرائيليين. النظام السوري، وحليفه الإيراني، وأدواتهما حماس وحزب الله، كانوا على الدوام عقبات أمام الحلول، بل يمكن القول إن هذه الأطراف كانت على اتفاق موضوعي مع الجانب الإسرائيلي، فكلما انفتحت آفاق التفاوض السلمي، ألغموها بطرق شتى، منها إطلاق الصواريخ الإيرانية، المستوردة لحماس وحزب الله عبر سوريا. والنظام السوري ساهم، مع صدام، في شق حركة التحرير الوطنية الفلسطينية بخلق تنظيمات موالية لكل منهما، وإضعاف القيادة الفلسطينية الشرعية.
عند عقد اتفاق غزة وأريحا عام 1993، كتبت في صحيفة القدس العربي ما يلي:
quot; كان شعوري، ولا يزال، هو الحزن الصامت والعميق إزاء اتفاق غزة وأريحا. ولو كان الوضعان الدولي والعربي على غير ما هما عليه اليوم، لمزقتني مشاعر الاحتجاج والثورة. فقد كنت من جيل ولد وترعرع مع القضية الفلسطينية، التي كانت، رغم جميع مآسي الوضع العراق وتغيراته، وعواصفه، من محاور الاهتمام الشعبي العراقي، والشارع السياسي، على مر العقود والسنين.quot;[ 8 سبتمبر 1993 ] وشرحت في المقال أنني، برغم ذلك، أؤيد الاتفاق آخذا مجمل موازين القوى والأوضاع بنظر الاعتبار. وكنت في ذلك ألتقي مع ما قاله الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش: quot; لا يرضيني ولكنني لا أرفضهquot;. فالقضية هي: هل نقبل بما يمكن الحصول عليه الآن، ولو جزئيا، مع الاستمرار في العمل لاستكمال الشوط، وفقا لموازين القوى، وليس حسب قاعدة: إما كل شيء مرة واحدة وإما لاشيء؟؟
كان الاتفاق ثمرة لانتفاضة الحجارة السلمية في النصف الثاني من الثمانينات، وهي الانتفاضة التي أثارت عطفا عالميا واسعا على القضية العادلة لشعبنا الفلسطيني لأنها جرت بأسلوب سلمي، حيث كانت حجارة الصغار تواجه عسف النار الفلسطينية. وقد أقنعت الانتفاضة إسرائيل وأميركا بضرورة البحث عن حل تفاوضي يلبي الحد الأدنى من مطلبي الأمن للإسرائيليين والأرض للفلسطينيين. وتحت زخم النضال الفلسطيني السلمي، المدعوم دوليا، جاء اجتماع كامب ديفيد برعاية بيل كلينتون في 2000، حيث قدم باراك تنازلات كبرى، ومنها حلول وقتية جزئية لموضوع القدس، دون تخلي إسرائيل عن حقها الاحتكاري المزعوم. كان الاتفاق بمجمله نقلة نوعية إلى أمام بالنسبة لحقوق الفلسطينيين، وإن لم يكن مثاليا. غير أن الراحل عرفات ما أن عاد، حتى رفض الاتفاق، وأعلن الانتفاضة الثانية باسم quot; انتفاضة الأقصىquot;، وتحت شعار quot;الانسحاب الإسرائيلي دون قيد أو شرط لحدود 1967quot;، وذلك في 23 سبتمبر 2002 . وخلافا للانتفاضة الأولى، استخدم الجانب الفلسطيني أساليب العنف والاعتداء على المدنيين، مما أفقد الانتفاضة عطفا دوليا كافيا، وزعزع موقف باراك داخليا، فجاء شارون للسلطة.
كان اتفاق غزة وأريحا وتنازلات باراك في كامب ديفيد بمثابة القطيعة مع الفكرة الثابتة منذ بن غوريون ومفادها لا للسلام مع العرب ولا لدولة فلسطينية. وكان رابين، قبل مصرعه، قد خرج عن تلك الفلسفة بقوة، فاغتاله الغلاة من الصهاينة.
في حينه، كتب الكاتب التونسي اللامع الأستاذ العفيف الأخضر مقالا بعنوان quot;لكنها ثورة حتى الهزيمة!quot;، [ الحياة بتاريخ 29 سبتمبر 2002 ]. وقد عالج الكاتب بدقة وموضوعية نقاط التمايز بين الانتفاضتين، مؤكدا على عدم جدوى أساليب العنف والمتفجرات وعمليات الإرهاب داخل إسرائيل، وكيف أن تلك الأساليب تجرد القضية العادلة من الدعم الدولي الفعال. فالانتفاضة الثانية جاءت ضد الإرادة الدولية التي اقتنعت بضرورة حل الصراع بالمفاوضات حصرا، لا بأساليب الكفاح المسلح. النتيجة كانت خسائر فلسطينية فادحة ومحاصرة عرفات في قطاع غزة. وقد أرسل مستشار عرفات ووزيره نبيل عمرو رسالة لرئيسه، يرد فيها:
quot; سيادة الرئيس: ألم نرقص طربا لفشل كامب ديفيد؟ ألم نلق الطين على صورة الرئيس كلينتون الذي تجرأ على تقديم اقتراح دولة فيها بعض التعديلات؟ ألم نفعل ذلك؟ هل كنا صادقين في ما فعلناه؟ لا، لم نكن لأننا، بعد عامين من الدم، صرنا ندعو إلى ما رفضناه بعد ما تأكدت لنا استحالة تحقيقهquot;- أي التحسر على ما كان ممكنا عام 2002، ثم لم يعد كذلك بعد الرفض.
لقد مرت على هذه الأحداث ثماني سنوات، وتغيرت الأوضاع، وموازين القوى، وتبدلت المشاريع والطروحات. حتى وصلنا لمرحلة التفاوض غير المباشر لمدة 4 أشهر فقط برعاية أميركية أيضا، بعد أن كان ممكنا وواجبا الشروع بمفاوضات مباشرة على أساس ما تم التوصل إليه في مؤتمر أنابوليس لعام 2007. وهذا ما تناولته في مقالات سابقة، حيث انتقدت إثارة الإدارة الأميركية شرط وقف المستوطنات أولا، لا لأنها ليست قضية كبيرة، بل لأنها قضية تابعة لقضية أكبر هي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وأدت إثارة هذا الشرط إلى بلبلة فلسطينية ومزايدات عربية مستمرة، من جانب مسئولين وفي وسائل الإعلام العربية. غير أن كتابا عربا واعين وشجعانا نبهوا إلى المأزق. فمثلا، كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد في quot;الشرق الأوسطquot; مقالا عنوانه quot; العرب ومصيدة المستوطناتquot; [ تاريخ 22 سبتمبر 2009]. وقد ورد في المقال:
quot; رأيي، كان ولا يزال، أن مباشرة التفاوض تستحق تجاوز كل الشروط والتحفظات، بما فيها قضية هامة مثل المستوطنات. الدليل أننا ضيعنا كل هذه الأشهر الثمينة على أمل إقناع الوسيط الأميركي أن يضغط على الجانب الإسرائيلي فيلتزم بإيقاف بناء المستوطنات. أخيرا وصلنا إلى الفصل الأخير من المطالبات العربية والمماطلات الإسرائيلية، واستحق الأمر اتخاذ قرار حاسم، المفاوضات أم لا، بغض النظر عن كل ما نتمناه.quot;
يتبع