quot;خروننجنquot; أول مدينة استقبلتنا في هولندا بعد أن تركنا حدود ألمانيا في صيف عام 2007، حيث يوجد سوق كبير للمواد الغذائية يقابل فيه الزائر يوم السبت من كل أسبوع، عمالا يتميزون بالطول الفارع والابتسام الطبيعي والدعابة، يقفون وراء طاولات تعرض عينات من هذه المواد بشكل جاذب، يناولون كل مستهلك قطعة صغيرة من تلك العينات كي يتذوقها قبل أن يشتريها أو لا يشتريها، منها quot; الآبل تارت quot; أو تورتة التفاح بطعمها اللذيذ (الطازج).
أذكر انني وزوجتي مسحنا السوق كله مرتين، وتناولنا من عينات الجبن واللحوم المدخنة والخبز ما لذ وطاب، وتقريبا نصف كيلو من تورتة التفاح، ولم نشتر شيئا لضيق ذات اليد... لكن ذكري هذا اليوم وتلك المدينة جعلتنا نضع هذه المدينة الهولندية الجميلة كأولوية في زيارتنا القادمة لألمانيا (لزوم مراجعة الطبيب في بريمن)، وربما نشتري أكثر من سلعة هذه المرة.
في عام 2008 قرأت مقالا للدكتورة quot; وفاء سلطان quot; بعنوان (نبيك هو أنت لا تعش في جبته)، تحدثت فيه عن عمليات البرمجة الفكرية وكيف أن الشركات الكبرى التي تبيع المواد الغذائية في أمريكا تستخدم بعض آليات الهيمنة العقلية التي تدفع المستهلك إلى شراء المواد التي تذوقها حتى في حال لم يستسغ طعمها، كيف؟
تقول: quot; في اللاوعي عند كل إنسان تستقر قناعة، بأن على الإنسان أن يقدر الخدمة التي يسديها أحد الناس إليه وأن يكون قادرا على ردّ الجميل.
عندما يتناول القطعة الصغيرة من المادة الغذائية من يد العامل يتشكل لديه إحساس خفي بأن العامل قد أسدى إليه خدمة.
ولاحقا عندما يقترح عليه العامل أن يشتري بعضا منها، لا يملك المستهلك الجرأة على أن يرفض ردّ الجميل. اللاوعي لا يحدد له بأن حجم الجميل يجب أن يتناسب مع حجم الخدمة، ولذلك يدفعه لأن يشتري المادة الغذائية ليس بالضرورة لأنه اقتنع بها، وإنما كمحاولة لردّ جميل العامل الذي أهداه قطعة صغيرة ليتذوقها قبل شرائها.quot;
هذا الكلام دقيق للغاية ففي عام 2009 شاهدت برنامجا بالصدفة البحتة علي قناة (سي ان ان) عن الأزمة المالية العالمية والمفهوم الجديد للاستهلاك، ذكر أحد الضيوف وكان صاحب متجر للمواد الغذائية أن كل كيلو من أية عينات يأتي بعائد عشرة أضعاف في حالة الشراء، بمعني المائة جرام التي يلتهمها المستهلك أو الزبون من باب التذوق سوف يردها عشرة أضعاف حين يشتري هذا المنتج.
الفيلسوف المعاصر quot; تشيتجاك quot; أضاف بعدا جديدا لمفهوم الاستهلاك اليوم، ويري أن تحوّلا عميقا حدث في quot;مجتمع الاستهلاكquot;. فالسلع صارت تُشترى من أجل أن يعثر المستهلك على المفاجأة وهي هديّة صغيرة.
quot;تشيتجاكquot; المتأثر بالعبقري جاك لاكان، يؤكد أن نقد quot;مجتمع الاستهلاكquot; قد أصبح اليوم شديد السّذاجة لماذا؟.. لأن فكرة زيادة عدد المستهلكين وفتح أسواقا جديدة لزيادة الاستهلاك أصبحت فكرة بالية، فالجديد هو أن تخلق داخل المستهلك الواحد عشرات المستهلكين، ومن هنا جاءت فكرة (السوبر ماركت) و(المول) و(الهايبر)... وهو موضوع مقال مستقل.
أضف إلي ذلك أن مجتمع الاستهلاك بالمعني التقليدي كما ظهر في القرن التاسع عشر، كان يلبّي - حسب quot; تشينجاك quot; - بعض المسرّات الزّائفة والمباهج الصّغيرة، بينما كان يحرمنا في الواقع من أشواقنا الحقيقيّة!. فالمنطق المتحكّم في ترويج البضائع هو منطق الشّوق لا منطق الاستهلاك. إن جميع البضائع تعدنا اليوم بشيء مّا زائد فوق ما يمكننا استهلاكه، ومن هنا وجدنا عبارة مثل: quot;تجدون جوائز كثيرة في انتظاركمquot;.. quot; اشتري زوجين من الأحذية وأحصل علي الثالث مجانا quot;.
هذا الكلام يعيد الاعتبار لشارل فورييه من جديد، فقد كان سابقا لعصره بزمان ولا يوجد فيلسوف أو اقتصادي هاجم quot; دين التجارة quot; مثل (شارل فورييه)، يقول: quot; إن الحكمة والفضيلة والأخلاق قد أصبحت كلها موضات بالية، وكل شخص يتعبد الآن لمقام التجارة. وعظمة الأمة الحقيقية، والشئ الذي يعتبره الاقتصاديون مجدها الحقيقي، هو أن تبيع زوجا من السراويل أكثر مما باعت الإمبراطورية المجاورة، بدل أن تشتريه منها quot;.
لكن الفيلسوف المعاصر بسراب نيكولسكو هو أول من تنبه إلي أن مجتمع الاستهلاك الجديد هو المؤشر الأبرز علي quot; تنامي الذكورة في العالم quot;، بينما كل مشروع حضاري للمستقبل يجب أن يمر بالتأنيث الاجتماعي أولا. من تجليات ذكورة العالم، ظاهرة عبادة الشخصية (الصورة، القناع). أقنعة عدة لوجه واحد وأنياب كثيرة لشخصية واحدة، بحيث تؤدي تناقضاتها إلى انحلال الكيان الداخلي. وهو يعزو سُعار الاستهلاك في عصرنا إلى هذه التعددية. وبالتالي، كلما زادت شخصيات الفرد الواحد زاد استهلاكه، وكلما زاد الاستهلاك تقزمت كينونته... تري هل تقتنع زوجتي؟!

[email protected]