القرينة الملازمة لبيان المراحل المتعددة للإنسان في القرآن الكريم قد تخرجه عن وجوده المادي الذي لم يدخله التشريع بعد، ولذلك فإن الدلائل القرآنية لا تنسب إليه الصورة الإيمانية التي تقتضي التوجه إلى التداعيات المرتبطة في حياته المعنوية وكمالها المستمد من حركته في الوجود من خلال البصائر والملكات التي زود بها. ومن هنا فقد أشار الحق سبحانه إلى أصل الإنسان بقوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) الإنسان 1. أي أن هذا الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً في الأزل، ولذا فرع هذا الوجود على بيان الهدى المتمثل في السبيل الذي يصل به إما إلى الشكر وإما إلى الكفر، كما في قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) الإنسان 3. وبناء على تحقق وجود الإنسان بهذه الحيثية المجردة فقد بين القرآن الكريم جميع المقتضيات التي تجعله بمنأىً عن الترابط المعنوي الذي خلق من أجله، ولهذا أشار إليه بأنه هلوع، جزوع، كفور، عجول، كنود، قتور، مختال، فخور، ظلوم، منوع، وما إلى ذلك. ثم جمع سبحانه هذه الأوصاف في الكبرى بقوله: (والعصر***إن الإنسان لفي خسر) العصر 1-2. ثم أخرج الذين آمنوا عن هذه القاعدة بواسطة القرائن التي جاءت مكملة لإيمانهم والتي أشار إليها في سياق السورة.

وبناءً على هذا التفريق فقد أودع الله تعالى في الإنسان حقيقة الخلق المتفرعة على ما سخر له من أسباب

وجعل النظام الكوني الذي يليه خاضعاً لإرادته، علماً أن هذا التسخير قد ذكر في كثير من متفرقات القرآن الكريم كقوله في الصغرى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) يونس 5. وأخيراً فرع ذلك على المهمة التي خلق من أجلها فقال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً) الإسراء 78. وكذا قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) طه 130. وبهذا يظهر أن قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) فاطر 45. يوحي بأن كل شيء خلق من أجله، ولهذا فإن هلاك الدواب مرتبط بهلاك الإنسان، وكذلك فإن مهمة الموجودات الأخرى سوف تنتهي بنهاية الإنسان، وقد بين سبحانه هذا المعنى في قوله: (إذا الشمس كورت) التكوير 1. والآيات التي بعدها، ولأجل الاختصار يمكن القول إن الله تعالى قد بين كل ما سخر للإنسان في قوله: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الجاثية 13. وهذه هي الكبرى التي تتفرع عليها آيات التسخير.

من هنا نعلم أن حياة كل إنسان تعادل حياة الناس جميعاً باعتبار أن المهمة الوجودية لا تقتصر على الكم، ولهذا جاء التشريع بالحفاظ على حياة هذا الكائن بنوعه، كما أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) المائدة 32. فإن قيل: لمَ كتب هذا الأمر على بني إسرائيل دون غيرهم؟ أقول الكتابة تجري فيهم وفي غيرهم إلا أن سن القوانين التشريعية وتفصيل الأحكام ذكر في التوراة. وبناءً على ما مر يمكننا القول إن الذي تتفرع عليه النفس الإنسانية إلى ما يرتقي بها ويخرجها من ضلالها إلى وجودها يتجسد في الصغرى التي أشار إليها سبحانه بقوله: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الأنفال 24. أي لما يحييكم في الدعوة إلى الله تعالى والتي تنطبق مصاديقها على العلم والإيمان والعمل الصالح.

فإن قيل: كيف يمكن استمرار الدعوة بما فيها من مصاديق دون أن يحصل الإنسان على أسباب حياته المادية؟ أقول: عند تأمل المعنى المشار إليه في الآية نجد أن الحياة المادية لا تخرج عنه باعتبار أن الشريعة تحمل في تراكيبها كل المعطيات التي تحقق للإنسان سعادته المادية أو الروحية، وقد بين سبحانه هذه المعطيات بقوله: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) البقرة 57. وكذا قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله) الأنعام 142. وقوله تعالى: (كلوا وارعوا أنعامكم) طه 54. ثم بين تعالى علة هذا الأمر بقوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم) المؤمنون 51. وعند تأمل هذه النتيجة نصل إلى أن الحياة الثانية لا تخرج عن الحياة المادية إلا أن لوازمها لا تنفك عن القيم الروحية، ومن هنا فقد أشار سبحانه وتعالى إلى الكبرى بقوله: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام 122. وأنت خبير من أن الموت المشار إليه في الآية لا يراد منه الموت الحقيقي وإنما الموت الذي يحمل صفات الحياة المفارقة للعلم والإيمان وما يترتب على ذلك من لوازم الطاعة، وإن شئت فقل تلك الحياة التي تجانب الروح المعنوية التي يتطلع الإنسان من خلالها إلى النهج الذي يبين له القيم والمعاني السامية أو بتعبير آخر يمكن أن تجرد إنسانيته عن جميع التشريعات التي تبين له الفرق بين الفعل والترك ومن هنا يكون مسيراً من قبل شهواته التي لا يستطيع أن يضعها في المكان المخصص لها.

وبناءً على هذا يكون الإنسان الذي بينا صفاته أقرب إلى أولئك الذين أشار إليهم سبحانه بقوله: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان 44. وقريب منه الأعراف 179. وإذا ما وصل الإنسان إلى هذه المرحلة تجده ينظر إلى الحقائق بنظرة أخرى حتى يصبح لا يفرق بين الحق والباطل أو الخير والشر، وهذا ما نراه اليوم لدى كثير من الناس الذين ابتعدوا عن منهج الله تعالى حتى وصلوا إلى المرحلة التي يسمون الأشياء من خلالها بغير مسمياتها. أما الإنسان الذي أحياه الله تعالى وجعل له نوراً يمشي به في الناس كما أشارت إلى ذلك آية البحث فهو أيضاً يرى ما لا يراه الناس ولكن من الجهة المقابلة فتأمل ذلك. من هنا يظهر أن الحياة الثانية التي يهبها الله تعالى للإنسان لا تخرج عن مفهوم العلم والإيمان، هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:

الرأي الأول: قال ابن عجيبة في البحر المديد: يقول الحق جل جلاله: (أو من كان ميتاً) بالكفر والجهل (فأحييناه) بالإيمان والعلم (وجعلنا له نوراً) في قلبه أي نور الإيمان والعلم (يمشي به في الناس) فيذكرهم بالله ويدلهم على الله (كمن مثله) غريق (في الظلمات) في ظلمة الكفر والجهل والتقليد والذنوب (ليس بخارج منها) أي لا يفارق ضلالته بحال (كذلك) أي كما زين الإيمان لهؤلاء (زين للكافرين ما كانوا يعملون) ويضيف: قال البيضاوي: مثل به من هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، ثم قال والآية نزلت في حمزة وابي جهل وقيل: في عمار وعمر وأبي جهل. انتهى كلام البيضاوي. ثم أضاف ابن عجيبة ولفظها أعم وفي الآية من أنواع البيان: الطباق: في قوله: (ميتاً فأحييناه) الإشارة: الروح تكون أولاً على الفطرة التي فطرها الله عليها من العلم والإقرار بالربوبية. انتهى موضع الحاجة.

الرأي الثاني: قال الطوسي في التبيان: بين الله تعالى أن (من كان ميتاً) يعني كافراً (فأحييناه) يعني وفقناه للإيمان، فآمن أو صادفناه مؤمناً بأن آمن، لأن الإحياء بعد الإماتة ههنا هو الإخراج من الكفر إلى الإيمان عند جميع أهل العلم كابن عباس والحسن ومجاهد والبلخي والجبائي وغيرهم، وقوله: (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) يعني جعلنا له علماً، فسمي العلم نوراً وحياة، والجهل ظلمة وموتاً لأن العلم يهتدي به إلى الرشاد كما يهتدي بالنور في الظلمات. انتهى ما نحتاج إليه وفي البحث بقية من ارادها فليراجع تفسير التبيان.

الرأي الثالث: يقول الطباطبائي في الميزان: الآية واضحة المعنى وهي بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط الساذج مثل مضروب لكل من المؤمن والكافر يظهر بالتدبر فيه حقيقة حاله في الهدى والضلال، فالإنسان قبل أن يمسه الهدى الإلهي كالميت المحروم من نعمة الحياة الذي لا حس له ولا حركة، فإن آمن بربه إيماناً يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته وجعل له نوراً يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شره ونفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه ويدع ما يضره وهكذا يسير في مسير الحياة وأما الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها ولا مناص له عنها ظلمة الموت وما بعد ذلك ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضار ونظير هذه الآية في معناها بوجه قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) الأنعام 36. وقال تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) النحل 97. انتهى وفي البحث لطائف أخرى من أرادها فليراجع تفسير الميزان.

فإن قيل: ورد في بعض الآيات التي ذكرتها في البحث أن الله تعالى قد شبه الذين لا يسمعون أو لا يعقلون بالأنعام حسب المفهوم.. ألا يعتبر هذا إهانة لها؟ أقول: صفات النقص التي يمتاز بها هؤلاء هي صفات طبيعية بالنسبة للأنعام، ومثال على ذلك أن الذي يضل الطريق وهو مبصر ينادى من قبل الآخرين بالأعمى ويعتبر هذا من النقص.. أما الأعمى الحقيقي عندما يضل الطريق فلا يعتبر ذلك من الأفعال التي تعيبه.. وقد بينا هذا المعنى في مقال سابق بعنوان.. سنسمه على الخرطوم.