يقول الدكتور عزالدين دخيل أن مفهوم الاندماج له معاني عديدة منها "التوحد والانصهار"، أي أنه يقترب من حالة تلاشي الخصوصيات الفردية أو الجماعية تدريجياً، ولكن هذا التلاشي ربما لا يُزعج خاطر صاحب الحاجة، بل وبطيبِ سريرةٍ ربما يرتضي التحلل الطوعي مع الزمن، وذلك مقابل حصول الفرد على الضمان الاجتماعي وبعض الرفاه المعيشي، هو إذن قد يتنازل عن أشياء كان يتبجح بامتلاكها يوماً ويدافع عنها بشراسة في بلاده قبل انتقاله الميمون، طبعاً مقابل أشياء تُحقق له بعض الملذات الشخصية أو العائلية في منفاه الاختياري، هذا من الناحية الاجتماعية.

أما من الناحية السياسية فيُعرف الاندماج بأنه عكس التمييز ويعني تشجيع الاختلاط بين الأجناس في المرافق التربوية والأماكن العمومية، إذ معروفٌ أن المحكمة العليا الأمريكية أمرت بالاختلاط العرقي في قضية براون ضد مجلس التربية سنة 1954، وهو القرار الذي قضى بإلغاء الفصل العنصري الذي تتبناه الولايات في المدارس العامة الرسمية في الولايات المتحدة.

أما فيما يتعلق ببطء الاندماج وسرعته فثمة وقائع حياتية مغايرة تماماً لما يُشاع عن الاندماج بلسان بعض الشرقيين المهتمين جداً بالفوائد المادية التي ستدر على اللاجئ لاحقاً عقب عملية الاندماج المرغوبة، ويبدو أن مثقفي الأقليات في الشرق الأوسط بشكلٍ عام، والكرد على وجه الخصوص يرحبون بمفهوم الاندماج قولياً، بينما عملياً فأغلبهم يعيش تناقضاً داخلياً في الكثير من المفاهيم التي ناضلوا من أجلها سابقاً من ضمنها مفردة الانصهار القومي المكروهة من قِبلهم اقتراناً بعملية الاندماج المحبذة من لدنهم في المجتمعات التي اختاروا المكوث بين ظهرانيها، من يدري لعلهم بناءً على رغبةً ظاهرية قائمة على ردات أفعالهم تجاه سياسات أنظمة بلدانهم، وانتقاماً من الماضي والذاكرة الجريحة، يسعون جاهدين للفِكاك من بعض ما يبدون قرفهم منه فيما يتعلق حتى ببعض الجوانب من موروثهم الثقافي والسياسي والاجتماعي.

بل ومن باب التشجيع على الاندماج راح بعض المتيمين بالحضارة الغربية، بعد إيمانهم العميق بما جاء في سياق نظرية فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، القول بأن من لديهم مؤهلات علمية أو ثقافية هم الأكثر قدرة على الاندماج في المجتمعات الجديدة، إلا أن ثمة وقائع حياتية تعاكس تماماً وجهة نظرهم تلك، حيث الأحداث الماضية التي عايشوها في بلدانهم تناهض ما يتمنونه أو يتوقعونه، أي ليس المثقفين والكتاب وعلية القوم هم أول من كان يتلقف ثقافة المدينة ويتبناها، إنما كان أسرع الناس قدرةً على التأقلم وتبني قيم المدينة بحذافيرها هم الأشخاص الذين كانت علاقتهم بمجتمعاتهم محكومة بالزيف والمحاباة، ومع الأقارب قائمة على الكذب والنفاق، ومن كان يعاني الخلل في صلاته مع العائلة أي الزوجة، الأم، الأب، الأخت، والأخ، أي كانت أصلاً علاقاته الاجتماعية مبنية على الدجل والخداع، بمعنى أن من كانوا من سفهاء القوم كانوا الأسرع الى تقبل كل ما هو موجود في الحواضر، والانسياق بسرعة جنونية نحو حاضنتها إيماناً وممارسةً سلوكية، إذ أن من كانوا يستشعرون باللاقيمة والدونية في مجتمعاتهم السابقة، كانوا أكثر الناس من لديهم القدرة على الاندماج والتلاشي في المدن السورية التي انتقلوا من القرى والارياف إليها.

لذا فبناءً على تلك التجارب فالمجتمع الغربي أيضاً ربما سيرحب بهكذا فئات أكثر من أصحاب الفكر والعلم والجاه والحكمة والثقافة، لأن السطحي اندماجه سهل جداً، ولديه قدرة خارقة على التلون، ومن ثم عملية انحلاله مضمونة أكثر بكثير من صاحب الفكر والرأي والمشورة، باعتبار أن الهامشي بالأصل جاهز للانسلاخ بكونه يفتقد سلفاً الى كل الثوابت القيمية في بنيانه المتداعي والهش، والذي بمقدور أية جهة تدر عليه ببعض الفوائد أن تستقطبه وتجعله يرمي ثوبه السابق ليرتدي الثوب الجديد إرضاءً لمن أمده بصنبور الاعتياش، وحيث بمقدور أية هَبة هوائية أن تأخذه الى المكان الذي تريد طالماً كان مفتقداً لوزنه الوجودي في مجتمعه السابق، وذلك بخلاف الآخر المعتد بما يملك من التراث والقيم، والذي لا يتنازل بسهوله عما لديه من الخصوصية المجتمعية أو الثقافية أو ما يمتاز به من السمات الحضارية ككل.

وباعتبار أن الشيء بالشيء يُذكر سنورد في ختام المقالة قول الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف القائل "بأن العالم يبدأ من عتبة بيتي" لذا فإن هذه القضية التي تروج اليوم بين المهاجرين في الدول الغربية، تعيدنا الى ما كان يماثلها أو يحاكي حالتها في بعض بلدان الشرق الاوسط ومنها بلدنا، أي فيما يتعلق بعملية الالتحام أو الانفكاك بين الانسان الريفي الذي كان ينتقل الى المدينة كمجتمع جديد عليه، وسرعة أو بطء اندماجه مع المحيط والأعراف والقوانين الطارئة عليه في عالمه الجديد، ومثالنا الحي من كانوا ينتقلون من القرى والبلدات البعيدة الى المدن السورية، حيث كان أغلب المستسلمين والخاضعين بسرعة وترحاب لقيم المدينة هم من الفئات التي كانت تفتقد الى الرضى عن الذات وتفتقر للفخر والاعتزاز بالنفس، أي الفئات التي كانت تعاني من فقدان القيمة المجتمعية في قراها، تلك المجموعات التي كانت تُعامل بنفور واستخفاف وربما بالاستحقار في بيئتها القروية لأسبابٍ تتعلق بالسلوك والتصرفات أو بالوعي الفكري أو الاجتماعي، حيث كان معروفاً لدى القاصي والداني بأن ضعاف النفوس والمهمشون والمنبوذون في مجتمعاتهم هم أول من يتبنى ثقافة المدينة بعجرها وبجرها، باعتبار أن واحدهم كان بحاجة ماسة الى هوية جديدة تخلصه من الهوية الاجتماعية السابقة التي تذكره بالمذلة والمهانة، وبالتالي الفكاك من تلك الملامح القميئة التي كان يحملها بعضهم معه الى المكان الجديد، وهي التي دائماً ما تُشعره بالضعة الاجتماعية وربما الوجودية بوجهٍ عام، حيث أن مشاعر النقيصة التي كانت تقض مضجعه وتحسسه بأنه دون سواه منزلة بين الناس، كانت تدفعه الى تبني كل ما هو في المدينة، مسارعاً الى الارتماء بكله في بوتقة البيئة الجديدة، حتى يتطهر من عار الماضي الذي ظل أو سيظل يلاحقه، إن لم ينصهر مع التغيير الحاصل رغبةً منه بتلاشي تاريخه السابق حتى يضيع أثرَ غابره في أتون الحاضر.