&&في زمن العولمة تمر مجموعة من الثقافات بعاداتها وطقوسها ولغاتها ولهجاتها من مرحلة الموت السريري الذي لا تنفع معه محاولات الانعاش، ذلك أن النموذج الثقافي الأرقى يكتسح المجالات الهشة ثقافيا مهددا إياها بالإنقراض والحذف من خريطة الحضارة البشرية المعاصرة. تنطبق هذه النزعة المستبدة على المنظومة الثقافية الأنجلوأمريكية، حيث أضحت صنما ثقافيا يبجله الكثيرون في أرجاء المعمورة. بعدما أقنعتهم بعدم جدوى ثقافاتهم الأصلية، استوطنت ذهنهم ومارست ببهرجتها وطلتها المثيرة سحرا سلبهم عقولهم و حولهم إلى مستهلكين لمنتوجاتها الثقافية، التي تبثها بواسطة الإنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية الرقمية وأغانيها وأفلامها ومسلسلاتها وبرامجها المشوقة والمتجددة على مدار الساعة. لم تسلم من هذا التأثير منطقتنا العربية ولا سيما بلدان الخليج العربي، التي أصبحت ساحة لتيارات ثقافية دخيلة تهدد هويتها العربية الاسلامية، لعل أغربها وأقلها رقيا الثقافة الهند أوردية، نظرا لإدمان العديد من الأسر الخليجية و العربية متابعة الأغاني والأفلام الهندية منذ ما يزيد عن ربع قرن. بموازاة ذلك فهناك وجود سكاني كثيف للعمالة الهندية في دول الخليج من مطارح النفايات حتى البيوت الخليجية المخملية، مما جعل الجالية الهندية تتحكم في الاقتصاد الخليجي تسييرا وانتاجا. وهكذا فإنه من الطبيعي أن يحصل الهنود المقيمون في الخليج العربي على بعض الحقوق المدنية والدينية كالحق في اقامة معابد هندوسية و مستقبلا اقتسام السلطة مع الخليجيين أنفسهم، إذ ليس من المستبعد وبمجرد نضوب أبار البترول أن يحل يوم يتربع فيه على عرش قصور الخليج العربي راجا من هندستان، وتتحول حينها دول الخليج العربي إلى ولايات تابعة للإتحاد الهندي ذي الأغلبية الهندوسية. آنذاك ليس من حق الخليجيين الاعتراض وطلب تدخل أممي أو عربي عاجل، ما داموا يفضلون الريع و النوم في العسل في أبراجهم الإسمنتية رافضين العمل الشاق والحياة العادية، فهناك من يخدمهم من ملل ونحل مختلفة معظمهم من عبدة الأوثان أو المصابين برهاب العربفوبيا و الاسلامفوبيا. كما ليس من حقهم الاستنجاد بالعرب بعدما ربطوا مستقبلهم الوجودي بالاعتماد على التدخل الأجنبي، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير الجاد في ربط مصيرهم بالأمة العربية الموحدة من المحيط إلى الخليج، أو ايجاد حلول لمشاكلهم من العمق العربي، وليس بالاعتماد على أجانب في مقدمة أولوياتهم خدمة مصالحهم ولو على حساب مضيفيهم من عرب الخليج.&

ليست باقي البدان العربية أفضل حالا من بلدان الخليج العربي، فبدورها ومن جراء اجتياح العولمة الثقافية لحدودها تتخبط في أزمة هوية، من تجلياتها انتشار نمط حياة استهلاكي فرداني ومادي سطحي والاقبال على الأغاني والأفلام والمسلسلات و البرامج الأمريكية أو تعريبها في نسخ عربية مشوهة، لعل أشهرها "معبود العرب" البرنامج الموسيقي الذي جعل للعرب معبودا أخر إلى جانب الله، وبعد أن صنع العرب ربا موسيقيا يحيطونه بهالة من التقديس، رب يستعد الشباب للحج إليه سنويا لأداء أشهر التراتيل الغنائية العربية في محفله البهيج، كما تتابعه وبشغف الأسر العربية على إحدى المحطات التلفزيونية الخليجية في محاولة منها للهروب من الواقع العربي الكئيب. في هكذا واقع ليس عجبا أن يسيء العرب للغة العربية فعبر الهواتف الذكية و وسائل التواصل الاجتماعي يتبادل الشباب رسائل باللهجات العربية مكتوبة بالحرف اللاتيني، أو بالإنجليزية في بلدان المشرق العربي أو بالفرنسية في بلدان المغرب العربي، بل و حتى بلغات مقطعية بدائية تفتقر إلى الحروف كاليابانية والكورية. و لا يعتبر هذا مؤشرا على الانفتاح الثقافي بالعالم العربي، بل بالعكس هو تعبير عن دونية الانسان العربي واستلابه حضاريا و نفور جماعي لفئة من الشباب العربي من الثقافة العربية باعتبارها تراثية قديمة غير مواكبة لتطورات العصر وغير قادرة على تقديم بديل حضاري يرقى إلى مستوى الحضارة الغربية، لذلك قررت تلك الفئة من الشباب الارتماء في أحضان الثقافة الغربية والعيش في غربة وعزلة ثقافية داخل أرضها العربية. كيف يمكن اعتبار تلك الفئة العربية المفتونة بوهج الحضارة الغربية نموذجا للحداثة والانفتاح، وهي تقلد الآخر و تحتقر الأنا العربية و لا تضبط اللغة العربية الفصحى ولا تملك من سعة الخيال ما يؤهلها لإبتكار حداثة ذات أصول عربية بروح عالمية؟&
&
رغم أن العرب يملكون لغة ظهرت كاملة من دون نواقص أو أعراض الشيخوخة فإنهم اليوم أشد الناس حرصا على تدميرها، ففي الوقت الذي يتوفرون فيه على القرآن العربي أقدس الكتب السماوية وعلى ملايين المؤلفات باللغة العربية في كل التخصصات، وفي الوقت الذي نالت فيه لغة الجمال والبيان والكمال مكانة مهمة في منابر اعلامية ومؤسسات وجامعات دولية، ويقبل عدد من طلبة أوربا وأمريكا على تعلمها لأهداف أكاديمية واقتصادية وسياسية واستراتيجية. ها هم العرب يتنكرون لها و يتهمونها بالعجز مفضلين عليها اللهجات العربية، فهناك حديث عن لغة لبنانية وليس لهجة لبنانية وأن هناك لغة مصرية وليس لهجة مصرية، حيث طالب أحد الناطقين بها" شريف الشوباشي" بإسقاط قواعد سيبويه وعدم تحنيط اللغة العربية بنحو ميت. وفي المغرب والجزائر مؤخرا تعالت أصوات لجعل الدارجة لغة التعليم إلى جانب الفرنسية. عرب اليوم متعصبون للإنجليزية والفرنسية أكثر من أصحابهما إذ حولوهما إلى لغتي الاقتصاد والادارة والعلم والارتقاء الاجتماعي، وهمشوا اللغة العربية وحصروا استعمالها في مقالات الأدباء والصحفيين و خطب رجال الدين والسياسة وطلاسم المشعوذين، وسحبوا من اللغة العربية طابعها العلمي مع أنها العلم نفسه، كيف لا وهي اللغة المعجزة المنزلة بها آيات القرآن الكريم؟. و بالتأمل في المشهد اللغوي بالمدن العربية نجد أن لها أصواتا تعكس تفاوتا وصراعا طبقيا مسكوتا عنه، ففي الأحياء الراقية تسود الانجليزية والفرنسية حيث الفئات الغنية و المدارس الخاصة والمعاهد والمراكز العالمية. بينما في الأحياء الشعبية حيث الفقر والجهل تنتشر اللهجات العربية، التي يتنكر لها العديد من الناطقين بها ما أن يرتقوا السلم الاجتماعي فجأة وينقلب فقرهم إلى ثراء فاحش يغيرون مساكنهم البسيطة بمساكن فخمة، وللتخلص من عقدة النقص الثقافي يسجلون أبناءهم في مؤسسات التعليم الخاص الأنجلوساكسونية أو الفرنكوفونية، أو في مدارس البعثات الأنجلوأمريكية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية...المنتشرة في البلدان العربية كالفطر السام، ثم يلحقونهم بجامعات عالمية خاصة أو بجامعات أوربية أو أمريكية لمتابعة دراستهم العليا. العجز ليس في اللغة العربية بل في عقول العرب التي تعاني من وباء الشلل الفكري منذ سقوط غرناطة الأندلسية في 1492. لا يمكن تصور مستقبل مشرق للغة العربية الفصحى في ظل نظام تعليمي عربي فاشل تسبب في كره التلاميذ للغة العربية، كما لا يمكن أن تتحسن وضعية اللغة العربية بالعالم العربي في ظل ندرة الدوريات والاصدارات العلمية باللغة العربية، و وجود أطراف عربية ترتكب الإجرام اللغوي حيث تحارب اللغة العربية و تشجع علنا استعمال الانجليزية والفرنسية واللهجات العربية في المؤسسات الاعلامية والاقتصادية والادارية والتعليمية الرسمية. الارتقاء باللغة العربية رهين بتوفر ارادة سياسية قادرة على التخلص من بنود اتفاقيات الاستقلال المتضمنة للتبعية اللغوية والثقافية والاقتصادية للمستعمر، إلى جانب ذلك يجب اصلاح وتعريب التعليم حتى الطور الجامعي، مع الاستفادة من اللغات الحية المنتجة للعلم والتكنولوجيا خاصة الانجليزية والماندارينية (الصينية)، و جعل طرق تدريس اللغة العربية أكثر حداثة ويسرا إضافة إلى دمج اللغة العربية الفصحى في المؤسسات الاقتصادية و توحيد المصطلحات بين الدول العربية و تشجيع الترجمة والبحث العلمي باللغة العربية، والزام الآباء على اختلاف دياناتهم وطوائفهم بتسمية أبنائهم بأسماء عربية فصيحة. واعلاميا لابد من رفع عدد البرامج الناطقة باللغة العربية الفصحى في القنوات التلفزيونية العربية، منع الاعلانات التجارية باللغات الأجنبية، بث المسلسلات والأفلام التاريخية باللغة العربية الفصحى، منع دبلجة الرسوم المتحركة و المسلسلات والأفلام الأجنبية باللهجات العربية والعودة إلى دبلجتها باللغة العربية الفصحى، تشجيع المواهب الغنائية على أداء أغاني بالعربية الفصحى أو باللهجة العربية البيضاء لتحقيق جماهرية وانتشار أكبر. لكن الأهم هو ضرورة تحرك المجتمع المدني والأسر بتربية الأطفال أجيال المستقبل على حب اللغة العربية الفصحى. و لتجاوز التفرقة والاختلاف بين اللهجات العربية، على المتحدثين أن يدرجوا بعض الكلمات العربية الفصيحة في اللهجات العربية المتداولة يوميا، وأن يعوضوا فيها الكلمات الأجنبية بمقابلها العربي، من أجل الاقتراب مرحليا من لهجة عربية بيضاء موحدة، و التي تقع في مستوى أوسط بين الدارجة واللغة العربية الفصحى، مع التواصل باللغة العربية عبر رسائل الهواتف الذكية والبريد الالكتروني و وسائل التواصل الاجتماعي و مدونات ومواقع الشبكة العنكبوتية. غير ذلك وفي ظل الهجمة الشرسة التي تتعرض لها اللغة العربية من اللهجات العربية واللغات الأجنبية، فإنه لا يمكن انتظار حدوث معجزة تنتشل اللغة المعجزة من قبر حفره لها أهلها الشاردون حضاريا في زمن العولمة.&
&
الدار البيضاء-المغرب