لم يعد أمام الرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض سوى ١٤ شهراً تنتهي يوم ٢٠ كانون الثاني/يناير من عام٢٠١٧، وهذه الفترة القصيرة سوف تكون حاسمة لتقرير نجاحسياسته الخارجية وترك بصمات راسخة في إرثه الرئاسي. فليست قليلة الشأن تلك التحديات المعقَّدة التي يواجهها في كل من أفغانستان، والعراق، واليمن، وسوريا، وليبيا، وفلسطين، وإيران.
ولمواجهة هذه التحديات تحتاج الولايات المتحدة في الدرجة الأولى الى تفهم وتعاون المملكة العربية السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي. كذلك سوف يستقبل أوباما في شهر أيلول/سبتمبر الجاري عدداً من زعماء العالم من بينهم الرئيس الصيني، والبابا فرنسيس ، وربما الرئيس الإيراني& حسن روحاني.
على أن اللقاء الاستراتيجي الأهم بالنسبة الى أوباما هو الذي جرى يوم الرابع من شهر أيلول/سبتمبر مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز. والملفت في هذا اللقاء أن أوباما بذل جهوداً مضنية لإقناع الملك سلمان بزيارة البيت الأبيض، خلافاً لما درجت عليه العادة مع سائر رؤساء الدول. فالملك السعودي لم يطلب موعداً من الرئيس الأميركي.
وفوق ذلك خرق الرئيس أوباما البروتوكول الأميركي بالخروج من مكتبه لانتظار قدوم الملك سلمان أمام الجناح الغربي من البيت الأبيض، فكانت هذه لفتة غير عادية من قبل الرئيس الأميركي الذي لا يفعل ذلك بالنسبة الى أي رئيس دولة آخر في العالم.
لقد أظهر الملك سلمان معرفة دقيقة بالسياسة الأميركية بعدم «إقحام» مملكته علناً في النقاش الأميركي بين الجمهوريين والديموقراطيين حول الاتفاق النووي مع إيران على الرغم من تحفظاته بشأن ذلك الاتفاق. وأبدى أوباما تقديراً للدور الحكيم الذي مارسته المملكة السعودية من حيث الامتناع عن الانضمام الى فريق أميركي ضد آخر. ذلك أنه من غير المحمود لأي طرف خارجي أن يتدخل في السياسة الأميركية الداخلية إذا كان يتوخى حسن العلاقة مع واشنطن، لأن مثل هذا التدخل من شأنه أن يعطي مفعولاً عكسياً، لكونه يلقى الامتعاض من الشعب الأميركي ومن مجلسي الكونغرس.
أما النتيجة الأهم لهذا اللقاء فهي تجديد العلاقة الاستراتيجية بين المملكة السعودية والولايات المتحدة. إذ إن «إعادة دوزنة» هذه العلاقات، من شأنها أن تعيد المملكة السعودية الى تأثيرها الاستراتيجي السابق الذي كان لها خلال ولاية الرئيس الأميركي الواحد والأربعين، جورج بوش الأب، بعد الاجتياح العراقي للكويت في شهر آب/أغسطس من عام ١٩٩٠.
إن الأهمية الاستراتيجية للدور المركزي الذي تلعبه السعودية بالنسبة الى الولايات المتحدة ناشئة من الاعتبارات التالية:
أولاً، إنها دولة نفطية عظمى ولا يمكن لأي دولة أخرى أن تنافسها. فالجدوى الطويلة الأجل للنفط الحجري غير قابلة للإدامة لأسباب اقتصادية، ومالية، وبيئية، خصوصاً مع استمرار هبوط أسعار النفط، الذي أدى حتى الآن الى إفلاس العديد من الشركات القائمة على استخراج النفط من الكتل الحجرية. ومن شأن الهبوط الراهن في أسعار النفط أن يؤدي الى إغلاق أكثر من ٤٠٠ ألف بئر نفطي في أميركا من الآبار التي تنتج ما معدله خمسة براميل في اليوم، بما يوازي ١١٪ من الانتاج الأميركي الإجمالي.
ثانياً، تُسهم أسواق السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي في خلق فرص عمل أمام ٢.٥ مليون مواطن أميركي يذهبون الى أعمالهم كل يوم، بالنظر الى ما يستوده السعوديون من سلع وخدمات أميركية، وبفعل الأعداد الكبيرة من الطلاب السعوديين الوافدين الى المعاهد الأميركية (انفقت السعودية ما مقداره ٧ مليارات دولار على تعليمهم)، بالإضافة الى مليارات أخرى يجري إنفاقها على العلاجات الطبية وعلى السياحة والاستجمام.
ثالثاً، تفوُّق المملكة السعودية على أي دولة أخرى في المنطقة من حيث موقعها الجغرافي وبنيتها التحتية العسكرية. فالولايات المتحدة بحاجة ماسة الى البنية التحتية العسكرية السعودية لحماية أمنها القومي وأمن حلفائها.
رابعاً وأخيراً، كون المملكة السعودية مركز العالم الإسلامي وتجذب الى مقدساتها في مكة والمدينة ملايين المسلمين من جميع أنحاء العالم.
وقد عرض الملك سلمان موقفه بهدوء وبشكل منطقي، في إطار من الحكمة والتواضع، مما ترك انطباعاً بالاحترام والتقدير من قبل الرئيس أوباما. وأظهر الملك سلمان شبهاً بوالده المؤسس الملك عبد العزيز من حيث كونه رجل دولة يحترم عهوده ولا يخرقها أبداً، فإذا قال شيئاً فإنه يلتزم به، كما أنه ينتظر الشيء ذاته من نظيره الأميركي.
ونتيجة لهذه اللقاءات الاستراتيجية، سوف تتعزز الالتزامات الأميركية تجاه المملكة السعودية ودول الخليج من خلال إمداد تلك الدول بالمزيد من الأسلحة المتطورة، وتكثيف المشاورات السياسية حول شؤون المنطقة، وتبادل أحدث المعلومات الاستخباراتية بغية مكافحة الإرهاب، وزيادة الوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
ومما لفت الأميركيين، وأعطي أهمية خاصة أثناء مأدبة العشاء التي أقامها مجتمع رجال الأعمال الأميركيين على شرف العاهل السعودي، أن الملك سلمان قضى ردحاً من الوقت يتحادث مع السيدة مورييل براوزر رئيسة بلدية مدينة واشنطن العاصمة، وهي سيدة سوداء عالية الثقافة تنتمي الى الحزب الديموقراطي الحاكم حالياً. والجدير بالذكر أن النساء يشكلن نصف عدد السكان في أميركا، منهم ٢٠٪ من المواطنين السود من أصول إفريقية. وصورة الملك السعودي مع السيدة رئيسة بلدية واشنطن، من شأنها أن تعزز صورة المملكة في أميركا مما يضفي أهمية سياسية على الزيارة تفضي الى تأثير سياسي إيجابي.
أما الانطباع الأهم الذي لاحظه الملاحظون فهو الانطباع الذي تركه نجل الملك السعودي، ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فاعتبروه حاد الذكاء، يتمتع بالحيوية والنشاط وحسن الاستعداد، كما أظهر مزايا قيادية ملفتة وإطلالة جذَّابة. ولهذا تركزت عليه أنظار الصحافة، ومراكز الأبحاث، ومجتمع رجال الأعمال، وأعضاء الكونغرس، والبيت الأبيض، وأساتذة الجامعات، فاعتبروه اللاعب الرئيسي، بعد الملك، من حيث تشكيل العلاقات العسكرية والاقتصادية الاستراتيجية بين المملكة السعودية والولايات المتحدة في السنوات القادمة. ولذلك فإن النخب الأميركية المهتمة بالسياسة الخارجية، وهي تبدي اهتماماً استثنائىاً بما يقول محمد بن سلمان وبما يفعل، سوف تقوم بتحليل كل كلمة يقولها وبكل خطوة يخطوها.
والخلاصة أن السياسة الأميركية القائمة على التعاون مع المملكة السعودية، سوف تتركز حول الوقوف في وجه التمدد الإيراني والهيمنة الإيرانية في المنطقة بهدف جعل الخليج منطقة سلام وأمن. والاختبار الأكبر الآن هو ما إذا كانت إيران سوف تخفف من غلوائها ومسلكياتها السابقة لتنتهج سياسة التعاون بدلاً من التصادم. لكن الولايات المتحدة والسعودية سوف تكونان مستعدتين للاحتمالين معاً، التعاون والتصادم سواء بسواء.&&&

هذا المقال تنشره "ايلاف " بالاتفاق مع تقرير " الديبلوماسي " الذي يصدره من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله