ربما لاتخطىء عين أي مراقب وجود عدد كبير من مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية المتخصصة في العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، ووربما لا تكون هناك مساحات شاسعة من الخلاف حول أهمية دور هذه المراكز لاسيما في ظل تعقيد وتفاقم الإشكاليات التي تحيط بالكثير من دول المنطقة، وبروز ظواهر مجتمعية وسياسية وفكرية بحاجة ماسة إلى دراسات علمية معمقة حول أبعادها وتأثيراتها وطرح الحلول والبدائل لمعالجتها أو التعاطي معها. ولكن هذه الأهمية لا تخفي بأي حال جوانب سلبية عدة تسيطر على أداء معظم هذه المراكز وتجعلها بمعزل عن دورها الحقيقي، وتجعل أي مقارنات يجريها الباحثون للكثير من المراكز البحثية العربية مع نظيراتها الغربية مسألة محفوفة بالمكاره للقائمين عليها والعالمين بأمورها. ومن ضمن الجوانب السلبية التي اعتقد أنها مهمة في هذا الإطار، غياب الدور الحقيقي الفاعل للكثير من مراكز الدراسات البحثية العربية في معالجة ظاهرة التطرف والارهاب، وهنا قد يقول قائل أن هذا الموضوع قتل بحثاً في المؤتمرات والندوات والمحاضرات التي تنظمها هذه المراكز بشكل شبه مستمر، وهذا أمر حقيقي بالفعل، ولكن هذه الجهود التي تستنزف بالفعل ميزانيات ضخمة وطاقات بشرية كبيرة تعاني بدورها إشكاليات جمة في مقدمتها غياب التنسيق الذي يؤدي بدوره إلى التكرار والدوران في حلقات مفرغة والعمل على مسارات متوازية لا متكاملة ولا متقاطعة ولا حتى متناسقة، ناهيك عن أن ثقافة تنظيم الفعاليات والأنشطة البحثية في كثير من المؤسسات البحثية العربية تبدو مرهونة بالإغراق في الدعاية والاعلام لا بالانتاج البحثي الجاد، بمعنى أن هناك اهتمام مبالغ به في أحيان كثيرة بالاعلان عن المؤتمرات والمحاور وأجندات المؤتمرات والندوات ثم لا تكاد تجد نتائج تذكر لما دار داخل أروقة النقاش، ناهيك عن أن ما يحدث في المسألة التنظيمية يمثل هو الآخر أحد الأحاجي التي يصعب تفكيكها أو فهمها، فقد شاركت في بعض المؤتمرات التي كتبت توصياتها قبل انعقادها ولا أدرى كيف توصل المنظمون إلى هذه القائمة الطويلة من التوصيات من دون أدنى مشاركة من جانب الحضور من الباحثين والأكاديميين والخبراء، الذين يفترض أن تفضي نقاشاتهم ومداخلاتهم وأوراقهم البحثية إلى هذه التوصيات النهائية!! هناك أيضا باحثون يشاركون في مؤتمرات عدة بورقة العمل ذاتها، التي يعدونها مرة واحدة ثم يشاركون بها في& أكثر من مؤتمر أو ندوة، لاسيما تلك الفعاليات التي لا تنشر أوراقها وفقا لقواعد تعمل بها، أو التي لا تمتلك ميزانيات تساعدها على النشر، ناهيك عن ممارسات أخرى مثل المشاركة في مؤتمرات على عجل ومن دون استعداد نوعي للباحث، أو تنظيم المؤتمرات ذاتها بشكل متسرع... إلخ من الممارسات السلبية التي تسهم بأدوار نسبية مختلفة في تحجيم دور العمل البحثي في معالجة الظواهر والاشكاليات التي تعانيها دولنا العربية.
ما دفعني أساساً للتركيز على هذا الموضوع أنني ألاحظ غياباً معيباً للدراسات العلمية الجادة حول معالجة ظاهرة التطرف والارهاب في العالم العربي بشكل علمي معمق يسهم في دعم الجهود الأخرى المبذولة على المستويات الأمنية والسياسية والعسكرية والفكرية والدينية، والحاصل أن الكثير من الدراسات المعتبرة في هذه الموضوع يجري اعدادها في مؤسسات بحثية غربية، تبذل بالفعل جهوداً بحثية تستحق الثناء من أجل فحص جذور هذه الظاهرة وامتداداتها وتشعباتها وتأثيراتها وتضع تصورات وخطط للعلاج، كما تقوم هذه المراكز بمتابعة روافد الظاهرة الارهابية ورصدها بشكل دقيق يدعو للاعجاب والتقدير.
ومن الدراسات التي صدرت مؤخرا وتعكس اهتماماً حقيقيا من مؤسسات البحث الغربية بدراسة ظاهرة الارهاب بأبعادها كافة، التقرير الصادر مؤخرا عن مركز دراسات التطرف في كلية كينغز التابعة لجامعة لندن، حيث أخضع باحثو المركز عينات من المنشقين عن تنظيم "داعش" للدراسة لكشف أسباب الانضمام ثم الانشقاق في مرحلة لاحقة، وهذه النوعية من الدراسات العلمية تسهم في سبر أغوار الظواهر الاجتماعية المعقدة، وتنير الدروب للباحثين لوضع استراتيجيات واقعية للتعامل معها.
التقرير اشتمل على شهادات نحو 58 من هؤلاء المنشقين عن التنظيم، وكشف عن أسباب متباينة للانضمام إلى التنظيم، منها نوعية الحياة التي جذبتهم إليها ووعدتهم بها أساليب الدعاية التقنية المتطورة التي ينتهجها التنظيم، وهي أساليب لم تأخذ حقها من الاهتمام وينظر إليها البعض باستخفاف شديد، ولكن الواقع يرد على ذلك حيث نقل عن منشق غربي قوله& إن"الكثير من الذين يلتحقون بداعش يشعرون بحماس نتيجة ما رأوه في الانترنت، ولكن سرعان ما يكتشفون أن الأمر يتعدى كثيرا الاستعراضات العسكرية والانتصارات المستمرة"!!
هذه النوعية من الدراسات العلمية الجيدة تسهم في بناء خطوات استباقية وحوائط صد تحد من فاعلية الجهود التي يبذلها "داعش" على صعيد التجنيد والاستقطاب، وتكشف عورات التنظيم وتفضخ خداعه أمام المراهقين والشباب الذين يمكن أن يغريهم بريق الدعاية الداعشية المتطورة تقنياً، فشهادات المنشقين تفوق في قوة اقناعها وتأثيرها أي مجاولات لتشكيل الاتجاهات وتغيير القناعات من خلال أطر وقوالب نظرية أخرى، فهم ينقلون حياة حقيقية ولا يتحدثون عن افتراضات، ومايروونه يمثل بالتأكيد سلاحاً معلوماتياً ومعرفياً فاعلاً في مواجهة آلة الدعاية الداعشية، فهي روايات تحظم الصورة النمطية التي روج لها التنظيم عبر أشهر عدة مضت ولاقت قدر من الرواج لدى فئات من الشباب الذي يعاني الاحباطات والانكسارات المعنوية في بلاده جراء الفقر والبؤس والحرمان في البلاد الفقيرة، وحتى التهميش السياسي والاجتماعي وضعف آليات الدمج كما في بعض الدول المتقدمة التي تشهد نزوح بعض مواطنيها وهروبهم إلى داعش.
الخلاصة أن هذا النموذج من الدراسات والجهود العلمية السابقة واللاحقة يأتي عبر جيل جديد من مؤسسات البحث والفكر القادرة على ملاحقة تطورات العصر ومتغيراته.

&