كانت الرسالة التي بعثتها تظاهرات يوم 27/9 من العام الجاري بمثابة إنذار نهائي للسلطة البرزانية الحاكمة بإقليم كردستان، مفادها بمختصر الكلام" أن الصبر قد نفذ". ويبدو أن قيادة برزاني قد إستوعبت مضمون تلك الرسالة ولذلك سارع مسعود برزاني للذهاب الى بغداد على أمل أن يحصل منها على ما يعينه لتجاوز حدود الخطر التي رسمتها تظاهرات السليمانية وحلبجة.

هناك تحليلات عديدة حول الأسباب التي دفعت ببرزاني ليتجرع كأس السم الذي طالما تخوف منه بالذهاب الى بغداد وتقديم التنازلات المطلوبة منه لحلحلة الأوضاع وإعادة بناء الثقة بينه وبين قيادة بغداد، منها أن برزاني قد تعرض لضغوط أميركية للمصالحة مع بغداد خصوصا وأن معركة تحرير الموصل باتت وشيكة.وهناك من إعتقد بأن إستفحال الأزمة المالية وتهديد المعلمين والموظفين بالإضراب العام كانا وراء إزدياد مخاوف حزب برزاني من الغضب الشعبي، وأيا كانت الأسباب القاهرة التي دفعت برزاني للذهاب الى بغداد، ولكن السؤال الذي يطرح وبقوة هو" هل حقق برزاني مراده من الزيارة، وهل خفف عن كاهله ثقل الأزمة السياسية والمالية التي تعصف بالإقليم؟

من الناحية السياسية لم ولن تحقق الزيارة أي تغيير في علاقات ومواقف الأحزاب السياسية تجاه التعامل مع برزاني وإنتهاء ولاياته الرئاسية،صحيح أن برزاني حاول من خلال جر بعض قيادات الأحزاب الكردستانية الى مشاركته في الوفد الذاهب الى بغداد، ولكن في المحصلة كان الوفد حزبيا أكثر منه حكوميا، فقد غاب عنه العديد من الوزراء المختصون بالأزمة المالية والنفطية بين أربيل وبغداد وهي محور الخلافات بين الطرفين.كما أن غياب القوة الثانية في الإقليم وهي حركة التغيير ومعها الجماعة الإسلامية عن التمثيل داخل الوفد عزز من طروحات بعض المحللين بأن عنصر القوة الجامعة في الوفد قد غاب، وهذا دليل بحد ذاته على أنه ليس هناك إجماع كردي تجاه الزيارة، على الرغم من أن حركة التغيير وعبر نوابه بالبرلمان كان سباقا ومبادرا لحل الأزمة المالية بإقليم كردستان، وأن تغييبه المتعمد عن تشكيلة الوفد لم يكن في مصلحة الحل.

على كل حال ذهب مسعود برزاني بكل ثقله وبتمثيل كردي مصطنع الى بغداد وإلتقى بالعديد من القيادات العراقية، فهل سيجني الشعب الكردي ثمار تلك الزيارة التي تصفها وسائل الإعلام التابعة لحزبه بأنها كانت" تاريخية"في حين أنها كانت زيارة المهزوم المكسور الوجدان وهي كانت إعلانا صريحا لتراجع برزاني عن إدعاءات تأسيس الدولة الكردية المستقلة أو على الأقل تنظيم إستفتاء شعبي لتقرير المصير، بالإضافة الى إعلانه الفشل الذريع لسياسة النفط المستقلة التي إعتمدتها حكومته.

هناك حديث يدور حول قرب عقد إتفاق نفطي جديد بين الحكومتين المركزية والإقليمية يقضي بتسليم الكمية المتفق عليها سابقا وهي 550 ألف برميل من النفط الكردي الى بغداد لضمان إرسال حصة الإقليم من ميزانية الدولة. ورغم أن هذا الإتفاق كان مبرما منذ سنوات عديدة وكان الإلتزام به كافيا لمنع حدوث الأزمة المالية المستفحلة حاليا، ولكن أطماع العائلة البرزانية وسعيها للإستحواذ على هذه الثروة حالت دون تنفيذ ذلك الإتفاق، مما دفع الحكومة المركزية الى قطع حصة كردستان، وفي المقابل هناك مليارات الدولارات من عوائد النفط يقال إنها تحولت الى حسابات كردية خاصة خارج العراق في غياب الرقابة البرلمانية والنيابية.

والان ماذا سيحصل، وهل ستسلم العائلة البرزانية نفط الإقليم الى بغداد مقابل المال لتجاوز الأزمة المستفحلة بكردستان؟

لو إفترضنا جدلا بأن الإتفاق سيبرم وأن حكومة الإقليم ستلتزم بتعهداتها وستسلم يوميا 550 ألف برميل من النفط، وأن العراق سيقوم بدوره الرقابي المطلوب وسيشرف عبر شركة سومو أو لجنة خاصة على عمليات التصدير والتحكم بالموارد.وهذا يعني بأن العائلة البرزانية وكذلك حكومة الإقليم لن يكون لهما أي دور في عملية التصدير والبيع والعوائد. السؤال الذي يطرح نفسه هو"ماذا سيكون مصير الديون المتراكمة على حكومة الإقليم والتي تفوق حسب بعض التقديرات أكثر من 30 مليار دولار تطلبها الشركات النفطية العاملة بكردستان؟ ومن سيدفع تلك الديون وكيف؟

الحكومة العراقية ليست مسؤولة أو ملزمة بدفع فاتورة التجاوزات&التي حدثت في الثروات النفطية بكردستان. وهي ليست ملزمة أيضا بقطع حصة من النفط الكردي من أجل دفع تلك الديون، بمعنى أنها سوف لن ترضى بأن يصدر الإقليم نفطا إضافيا على الحصة المحددة والبالغة 550 ألف برميل من النفط يوميا، وقد تعجز حكومة الإقليم من تصدير أكثر من الكمية المتفق عليها لأسباب لوجستية، فكيف إذن ستدفع حكومة الاقليم تلك الديون المترتبة عليها، خاصة وأن جميع العوائد المالية بما فيها إيرادات الجمارك والإيرادات الداخلية يجب أن تعود الى بغداد، بمعنى أنه لن يبقى لدى حكومة الاقليم أية سلطة على العوائد الداخلية والخارجية، فكيف يمكن دفع تلك الديون الهائلة للشركات النفطية؟.وطبعا لا أصدق ولو للحظة بأن تدفع العائلة البرزانية تلك الديون من الأموال التي هربتها الى الخارج، وبناء عليه فإنني لا أرى أي أمل في أن تتوصل الحكومتان المركزية والإقليمية الى أي إتفاق يضمن إنسيابية دفع الحصة الكردية من الموازنة، وأن العائلة البرزانية رغم أنها قد تكون شبعت من سرقات النفط ولكني لا أتوقع أن تسلم هذه الثروة الى بغداد، وسوف نرى كيف أنها ستخلق مئات المشاكل أمام تنفيذ أي إتفاق نفطي قادم إذا لم يضمن لها حصة معتبرة من ثروات كردستان، فهذه العائلة لاتستطيع العيش بدون أموال، لأن أساس وجودها في السلطة والحكم هو المال الذي ربما يدفع لشراء الذمم والولاءات.