&

الماوراء، المرئي واللامرئي، الغيب، وما يقبع خلف الواقع، عالم الأموات وما بعد الموت، وعلم قراءة المستقبل، ومحاولات الاستدلال على وجود الله أو إثبات عدم وجوده.

كلها أمور ومباحث ومجالات ميتافيزيقية ينفر منها العلماء، ويحبها الفلاسفة ورجال الدين لأنها تشكل الأرضية التي يبدعون فيها ويمتلكون أدوات الإقناع والإيهام والترهيب والترغيب اللازمة لدفع المرء للإيمان والاعتقاد واختيار دينه ومعتقده. فكل الأنبياء والرسل في تاريخ البشرية، خاصة أصحاب الرسالات السماوية والديانات التوحيدية، ربطوا نصوصهم وآيديولوجياتهم بالماوراء L’au-delà وبالغيب وبقوة خارقة تقع خارج المكان والزمان الكونيين المعهودين وتسميتها بمسميات كثيرة كــ: الله والرب والإله والخالد والأبدي والسرمدي والخالق والمدبر و ما يحيط به من جنة ونار، وبرزخ،وجحيم وفردوس الخ. فالكون وما فيه مسلوب الإرادة، وموجود برغبة وإرادة خارجة عنه، ومفروضة عليه، ويتعين عليه الطاعة والانصياع والعبودية والخضوع، سواء في عالم المادة والحياة، أو عالم الموت وما بعده، أي الآخرة والحساب. أحد القراء لهذه السلسة يعقب بإلحاح مستميت، كأنه معبراً بذلك عن قلقه الشخصي وتوقه لمعرفة جواب أو حقيقة ما قد تشفيه وتساعده على تغيير قناعات أو التمسك بها أكثر، ويتلخص تعقيبه بكلمتين هما، أن العلم لم يتمكن من إثبات وجود الله ولا عدم وجوده لحد الآن كما لم يتمكن من إثبات وجود كائنات عاقلة ذكية ومتطورة أخرى أقامت حضارات كونية متطورة ومتقدمة علمياً تتجاوز وتتقدم علة البشر بكثير. ونحن البشر، كنا وما نزال وسنظل لقرون طويلة، سجناء لهذه الثنائية الوجودية: هل الله موجود أم غير موجود؟ وماذا سيترتب على ذلك بالنسبة للبشر في حالة ثبات إحداها وبطلان الأخرى علمياً.

ليس من طبيعة العلم وغاياته واهتمامه، ولا بأي شكل من الأشكال، الخوض في هذا الموضوع وتقديم الإجابة التي ينتظرها منه مليارات البشر، فبكل بساطة الله ليس موضوعاً علمياً يمكن إخضاعه للبحث والتجربة والمعادلات الرياضية، فهو في حقيقة الأمر مفهوم لاهوتي لا مادي قابل للتأويل وتطور التعاريف المرتبطة به. فلا توجد مشكلة إسمها الله لدى العلم والعلماء، بل هناك مشكلة علم بالنسبة للأديان ولرجال الدين والمؤسسات الدينية، لأن هذا العلم يمتلك الأدوات والنظريات والقوانين التي تمكنه من تقديم إجابات مقنعة وناجعة ومقبولة وعقلانية عن الأصل والمصير لكل شيء مادي موجود في الكون المرئي مهما كان حجمه أو أهميته، كبره أو صغره، وأغلب ما يقدمه من إجابات يتعارض مع المسلمات والنصوص التي قدمتها وتعاطت معها المؤسسات الدينية ورجال الدين بإسم الله، وهذا هو المقصود بالتابو المحرم الذي يتوج عنوان هذه الدراسة المطولة .

عندما تتصادم العوالم المتوازية .. تولد نظرية الكم:

الأكوان المتوازية، والعوالم المتعددة، كالعوالم التي لم تنقرض فيها بعد الدينصورات بسبب اصطدام كويكب، كما حصل مع عالمنا، أو حيث لم تُستعمر أستراليا بواسطة البرتغال ويكتشف كريستوف كولومبس أمريكا، هي مواضيع أساسية دسمة ورائجة في الخيال العلمي، لكن هل هناك حقاً أكوان متوازية وعوالم متعددة من الناحية العلمية المحضة؟

في ورقة بحثية مهمة جداً نُشرت مؤخراً في المعرض الفيزيائي أي بي اكس (APX)، قامت مجموعة من العلماء من جامعتي غريفيث وجامعة كاليفورنيا باقتراح أن الأكوان المتوازية ليست فقط حقيقة بل هي ضرورة لا بد منها للخروج من مأزق المفارقات والتناقضات العلمية الحالية، وهي على الأرجح، ليست فقط موجودة فحسب، بل يمكن أن “تتصادم” بين بعضها البعض لتولد غيرها، وبالتالي فإن العوالم المجاورة هي مصدر الظواهر للميكانيكا الكمومية أو الكوانتية La mécaniques Quantiques غير الاعتيادية بالمرة حسب ما تقول النظرية.

كثرة تفسيرات وجود العوالم:

إن فكرة وجود العوالم الموازية في الميكانيكا الكمومية أو الكوانتية ليست جديدة – فلقد عرض العلماء واحدة من أبرز التفسيرات لها، أي ميكانيكا الكموم ـ الكوانتوم في نهاية خمسينيات القرن الماضي وبالتحديد سنة 1957 والآن، أصبحت ميكانيكا الكموم أو الكانتوم قابلة للتطبيق على نحوٍ واسع وهي اليوم النظرية الفيزيائية الأكثر نجاحاً على مر الزمن. إذن، قد نتسائل، لماذا تحتاج (النظرية) لتفسير متواصل؟ هناك سببان أوليان لمثل هذا التساؤل:

أولاً، إن تشكيلية وهيكيلية وآلية ميكانيك الكموم بعيدة للغاية عن تجربة كل يوم المألوفة عند الناس. حيث تعتمد ميكانيكا الكموم على “دالة الموجة Fonction d’onde ” والتي تشبه الموجة باستثناء إنها لا توجد في فضاء ثلاثي الأبعاد إنما بفضاء يتمتع بدد لانهائي من الأبعاد.

ثانياً، ما يسمى بـ “علاقة بيل relation Bel”، التي مفادها إن دالة الموجة لا يمكن استبدالها، رياضياً، بأي وحدة قياس أخرى في العالم الطبيعي. إذ توجد تفسيرات حسابية متعددة لميكانيكا الكموم أو الكوانتوم، mécanique quantique (MWI) وكل واحدة منها تعطي تصوراً مختلفاً بعض الشيء عن طبيعة الحقيقة و ماهية الواقع. لكن كل تصور يقدمه المكيانيك الكوانتي أو الكمومي، هو، بالمعنى الدقيق للعبارة، غريب نوعاً ما؛ وذلك بسبب غرابة ميكانيكا الكموم نفسها، والتي اعتبرها البعض في بداية القرن الماضي بمثابة ميتافيزيقيا العلم أو الماوراء في العلم L’au-delà de la Science.

تكمن غرابة كثرة تفسيرات تعدد العوالم في طبيعتها المنتظمة التي هي “إن كل كم وفي أي وقت” هو موجود في “كونٍ” مستقل، وهذا “الكون” يتجزأ إلى كثير من الأكوان، واحداً لكل ناتج من العلاقة –علاقة بيل- المذكورة أعلاه.

يدحض الميكانيك الكمومي أو الكوانتي التعريف المادي المألوف للواقع والذي لا يمكن أن يقوم بتفسير يتحلى بالدقة عندما يكون هناك علاقة بيل. وبالتالي، يصبح عدد العوالم، في أي وقت ما، غير معروف، كما أن كل عالم غير واضح الحدود، وتكون تلك العوالم المتعددة موصفةً بدالة الموجةFonction d’onde .

كما إن النتائج تختلف باختلاف الاحتمالات، فتفترض ميكانيك الكموم أو الكوانتوم إن العوالم المختلفة هي ذات “أهمية” مختلفة – فبعضها أكثر أهمية من الأخرى لذا على الأرجح أن تكون كلها حقيقية وموجودة كحقيقة. وأخيراً، وفي نفس الوقت، فإن هذه العوالم المختلفة لا تتفاعل، لذا فإن بعض الانتقادات تقول بأنها عوالم افتراضية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وبالتالي فهي لا تمتلك سبباً لتكون حقيقة وهذه مفارقة.

عوالم متفاعلة متعددة:

تضم هذه النظرية عوالم متعددة لكنها تملك نفس نهايات الـميكانيك الكمومي الاعتيادية. أولاً: تفترض هذه النظرية حلاً يقول: مع أن عدد العوالم ضخم جداً، فإن كل هذه العوالم الموجودة باستمرار خلال الزمن، وبدون تفرع. ثانياً: عوالمنا هذه ليست غامضة فحسب، بل وعلى وجه التحديد، لديها مميزات معروفة. وفي ضوء هذا المنهج، فإن أي عالم سيكون محدداً بمكان وسرعة بدقة لكل جسيم أولي موجود في ذلك العالم . لا يوجد هناك “مبدأ الريبة أو اللايقين أو اللادقة لهاينزنبيرغ الذي ينطبق على عالم واحد هو عالمنا، وهذا ما يدفعنا للقول أنه، في الواقع، لو كان هناك عالم واحد فقط، لكان ذلك يُحكم بميكانيكا نيوتن لا بميكانيكا الكموم.

ثالثاً: عوالمنا تتفاعل، وذلك التفاعل هو ناتج كل التأثيرات الكمومية. وعلى وجه الخصوص، توجد قوة طاردة في كل جسيم أولي، بين عوالم ذات ترتيب مماثل (ذلك، وأيضاً عوالم ذات موضع مماثل لكل جسيم على وجه التقريب). وإن هذه القوة البينية تحول دون امتلاك العوالم المتقاربة نفس الترتيب، وتميل لتكوين عوالم مختلفة.

رابعاً: إن كل واقع، وكل عالم من هذه العوالم هو حقيقي على حد سواء. أمر محتمل واحد فقط، عند اقحام النظرية بسبب الأجهزة الراصدة أو الجهة الراصدة، أين تكوّن جسيمات العالم الحقيقي؟، فلا يعلم الراصد بأي عالم هو، وهل هو داخل أم خارج هذه المجموعة من العوالم. من هنا سيسجل الراصد احتمال متساوي لكل عضو من هذه المجموعة والذي يكون متوافقاً مع تجاربها. بعد إجراء التجارب سنعرف أكثر عن أي عالم كان فيه، وبالتالي استبعاد مجموعة من العوالم التي من المرجح أن يكون موجوداً فيها أيضاً.

مع وضع كل هذه النقاط معاً – اقتراب العوالم التفاعلية المتعددة من ميكانيكا الكموم. لا يوجد شيء آخر في هذه النظرية. لا وجود لدالة الموجة ولا قاعدة خاصة للتفاعل ولا فارق أساسي بين الأجزاء الكبيرة والأجزاء المجهرية. على الرغم من ذلك، فمن الممكن لهذا النهج إعادة صياغة كل مفاهيم ميكانيكا الكموم الشائعة، بما فيها تداخل الشقين الطوليين، وطاقة نقطة الصفر، والحاجز النفقي، ومبدأ الريبة أو اللايقين، وأخيراً علاقة بيل المذكورة أعلاه.

آثار وتطبيقات:

يقترح العلماء تسمية النظرية بـ”نهجméthode ” بدلاً من تسميتها “تفسير” لأن لكل عدد متناهٍ في العالم في هذه النظرية يتم تقريبه لميكانيكا الكموم. وهذا يعطي احتمال دقيق، من الممكن اختباره في وجود عوالم أخرى. القدرة على “تقريب الكموم تتطور باستخدام عدد متناهٍ للعوالم” بإمكانها أن تكون مفيدة، خاصة في الديناميكية الجسيمية النموذجية (والتي هي مهمة لفهم التفاعلات الكيميائية).

&دائماً ما كانت ميكانيكا الكموم لغزاً بسبب تعقيدها، لكن، من جهة أخرى، هناك طرق عميقة للإنحراف عن ميكانيكا نيوتن. وذلك بسبب، أن هذه الانحرافات قد تكون سبباً لتفاعل العوالم النيوتونية المتقاربة تفاعلاً أساسياً مع العوالم المتوازية مما يُدخل حلولاً جديدة للغز الكمومية.

وفي النهاية، لا يوجد شيء غير قابل للتصديق بالمرة،، وتلوح في الأفق إمكانية تطوير التواصل بين العوالم الموازية وهذا يستدعي أن نمتلك ناصية الميكانيك الكمومي ونستوعبه وندرك إمكانياته الكامنة.

من هنا صار لا بد من فك شيفرة ولغز الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. فهذه النظرية كانت وما تزال تشكل مرجعية علمية فيزيائية بامتياز رغم تعقيدها وغموضها وصعوبتها. ومع ذلك فهي توفر تفسيرات ووصف للطبيعة والكون مقبولة وأكثر علمية، مع قدرة هائلة على التوقع والتكهن والتنبوء وإمكانية شرح وتفسير الكثير من الظواهر، ابتداءاً من سلوك الجسيمات المجهرية ومادون الذرية، والذرية، إلى النجوم والكواكب والمجرات. ويؤمن بعض العلماء أن كل ما يمكن أن يحدث في الوجود فهو يحدث فعلاً حسب معطيات وثوابت ومعادلات هذه النظرية الكمومية أو الكوانتية. وفي مواجهة القوة التي لا حد لها للطبيعة والكون لا بد من التسلح بأداة علمية قوية وناجعة، وهي هنا نظرية الكوانتوم أو الميكانيك الكمومي، فهي تفتح لنا آفاق الإبحار في عوالم اللامتناهي في الصغر l'infiniment petit، الذي تفلت آلياته غير المرئية من قدرة الإدراك والإستيعاب البشري. والحال أن معرفة سلوك الطاقة والمادة في المستويات المجهرية ومادون الذرية اللامتناهية في الصغر في غاية الأهمية لمعرفة وفهم العالم بشموليته وكليته. ولكن أن نحسب en supputant أن جسيم أولي يمكن أن يتواجد في عدة أماكن في آن واحد تجعلنا نفكر بأن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي هو شيء من الخيال العلمي وليس فرعاً من فروع العلم الجادة والرصينة، ومع ذلك فهو أحد أعمدة الفيزياء المعاصرة والحديثة. نعم، المكيانيك الكمومي هو أفضل مثال لنظرية مقصورة على فئة معينة ومحدودة جداً جداً من النخبة العلمية ésotérique لكنها باتت ضرورية لا مفر منها ولا حيادة عنها في جميع ابحاثنا العلمية، فهي تبدو وكأنها ماورائية لأن وصفها للظواهر الطبيعية ينطوي على القول بأن بالإمكان حقاً لجسيم مجهري أو مادون ذري أن يتواجد في عدة أماكن في آن واحد، وعلى طرفي نقيض في الكون، وفي نفس الوقت، و لا يتحرك أو ينتقل إلا بعد أن يستكشف الكون برمته دفعة واحدة بسرعة تفوق سرعة الضوء بمليارات المليارات من المرات،وهذا ما يتعذر على الإنسان العادي تقبله أو إدراكه وفهمه . وهي مفيدة لأن فهم سلوك العناصر والمكونات والجسيمات الأولية الأصغر الموجودة في الكون المرئي يسبق فهم باقي الموجودات، ولقد أوضحت النظرية وأثبتت بأن كل شيء في الوجود والطبيعة مكون ومبني من حفنة من الجسيمات الأولية التأسيسية particules élémentaires تطيع وتخضع لقوانين النظرية الكوانتية أو الكمومية، وإن تلك القوانين تبدو سهلة وبسيطة يمكن تلخيصها واختزالها على ظهر ظرف رسائل عادي صغير، إنطلاقاً من مبدأ أن كل شيء يمكن أن يفسر عبر أو من خلال الفيزياء الكمومية أو الكوانتية من أصغر شيء إلى أكبر شيء يمكن تصوره. فالجسيمات الأولية اللامتناهية في الصغر هي بمثابة طابوق البناء الذي يهيكل نسيج الطبيعة وماهيتها ويقدم مفاتيح الفهم والإدراك للعالم الميكروسكوبي والعالم الماكروسكوبي، أي لعالمي اللامتناهي في الصغر وعالم اللامتناهي في الكبر. الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات تتفاعل فيما بينها مكونة الذرات التي تتفاعل بدورها فيما بينها وتتجمع لتشكل كل البنى الموجودة، من أصغر وابسط الأشكال إلى أكثرها تركيباً وتعقيداً. وأكتشف العلماء فيما بعد أن البروتونات و النيوترونات يمكن تجزئتها بدورها إلى مكونات اصغر تسمى الكواركات وهي أصغر ما توصل إليه الإدراك البشري من بنيات للمادة المعروفة من قبل البشر.

عالم العشوائيات المتوقف على المصادفة aléatoire:

من أجل فهم واستيعاب المفاهيم الكبرى والرئيسية التي أفرزتها نظرية الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، نحتاج للعودة قليلاً إلى الماضي القريب، إلى عام 1900 عندما وضع إرنست روذرفورد Ernest Rutherford حجر الأساس للنظرية قائلاً:" من المفترض أن لكل الذرات المتشكلة في نفس الوقت عمر محدد، والحال هو عكس ذلك، فلقد أظهرت المشاهدات أن للذرة مدى حياتي يمكن أن يأخذ أية قيمة بين الصفر واللانهاية. وكان ذلك يمثل قطيعة حقيقية وعميقة مع علوم تلك الحقبة الزمنية المبنية على الحتمية déterminisme واليقين المطلق certitude absolue. وللمرة الأولى تبرز فكرة أن الطبيعة، وبالأخص العالم الميكروسكوبي ما دون الذري فيها، يمتلكان خصائص عشوائية تتحكم بها الصدفة ومرهونة أو متوقفة على المصادفة. فالنظرية الكمومية أو الكوانتية تستبدل اليقين بالاحتماليات. فمن المستحيل، على سبيل المثال، معرفة متى سوف تتفتت ذرة معينة على وجه الدقة. فالأمر يتطلب سنوات عديدة من التجارب والجهود والعمل الدؤوب والمثابرة الضرورية لمعرفة التركيبة الدقيقة للذرة التي تمثل النواة كتلتها الأساسية، ومعرفة طريقة عملها الداخلية. في عام 1913 نشر العالم الدانيماركي نيلز بور Niels Bohrأول نظرية كمومية أو كوانتية بمعنى الكلمة حول بنية وتركيبة وهيكيلية الذرة وتكوينها وشبهها بالمجموعة الشمسية المصغرة أو المجهرية الميكروسكوبية وقال في خاتمة بحثه أن الإلكترونات تدور حول النواة ولا يمكنها احتلال كل المدارات بل بعضها على نحو محدد ومختار بدقة ولكن بإمكان الإلكترونات القفز من مدار إلى آخر ببث طاقة على شكل شعاع أو ضوء . وفي سنة 1925 تم الكشف عن بعض ألغاز وأسرار العالم ما دون الذري وذلك على يد العالم الألماني ويرنر هينزيبيرغ Werner Heinseberg، لاغياً على نحو قاطع الفكرة التي تقول أن الطبيعة يجب أن تطيع منطق ما أو التوافق مع الحس العام، وقالت نظرية هينزبيرغ الكمومية أو الكونتية عكس ذلك، أي أن العالم اللامتناهي في الصغر ليس عبارة عن نموذج مصغر للعالم الماكروسكوبي في اللامتناهي في الكبر، بل هو عالم مختلف ويعمل بطريقة مختلفة تماماً ومن هنا فإن المكيانيك الكمومي معقد ومن الصعب مقاربته من قبل غير المختصين والمؤهلين والمتآلفين مع مفدراته وغرابته. ففهم هذا العالم يتطلب توفر شروط مسبقة للولوج إلى نظرية تضم مفاهيم الصدفة والاحتمالية حيث من الضروري أن نتمتع بالقدرة على الانسلاخ من حدسنا التقليدي ومفاهيمنا المرتبطة بقدرتنا على الفهم والإدراك والاستيعاب لهذا العالم. فبعض القوانين الفيزيائية التي اعتدنا عليها على صعيد النظرية والتجربة والتطبيق وأثبتت صلاحيتها وصحتها العملية مثل جاذبية نيوتن، لم يعد لها أي معنى في العالم الكوانتي أو الكمومي الذي يحتوي حقاً، وعلى نحو حقيقي،على حالة " في كل مكان l'ubiquité" .فقوانين نيوتن تمنحنا صورة متساوقة ومنسجمة تماماً مع إحساسنا وحدسنا وشعورنا تجاه العالم المادي المحيط بنا وتأخذ شكل المعادلات الرياضية التي تفيدنا في توقع الأشياء بدقة متناهية كحركة الأجسام. فكل شيء، في إطار هذه النظرية، وفي كل لحظة، متسمة بخصائص وسمات وتتميز caractérisés بمواقع وتتنقل على نحو مستمر من موقع إلى آخر على نحو محسوب بدقة. وهي من البديهية بمكان بحيث لا تتطلب الإشارة إليها و لا التعليق عليها في كل مرة، بيد أن ذلك بدا وكأنه مجرد إفتراضات présuposé، متناغمة ومنسجمة مع طبيعة إدراكنا وتجاربنا، لكنها غير مبنية على أي يقين certitude. فما الذي يضمن لنا أن الشيء موجود هنا أوهناك و لا يوجد في نفس اللحظة في أماكن أخرى مختلفة؟ وهذا ما لمسه أقطاب الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، فيما يتعلق بالإلكترون داخل الذرة. حيث تبين لهم أنه يمكن أن يكون هنا وهناك وفي مكان آخر في نفس الوقت . وحتى لو بدت هذه الفكرة غريبة وغير معقولة أوغير قابلة للتصديق لأننا غير قادرين على تخيلها أو تمثلها في أذهاننا لكنها حقيقة علمية مثبتة اليوم كما قال بريان كوكس Brian Cox وجيف فورشو Jeff Forshaw. وهكذا أدرك العلماء والباحثون أنه إذا كانت التفاحات والكواكب تخضع بالفعل لقوانين نيوتن لكن الأمر مختلف كلياً بالنسبة لمكونات المادة الجوهرية. فعلى النقيض من الأشياء الكبيرة الماكروسكوبية والجسيمات العادية المعروفة، إلا أن تجارب متعددة أظهرت أن الإلكترون يمتلك سلوكاً خاصاً ومتميزاً وغير متوقع و لايمكن التنبوء به imprévisible، فهو قادر على التفاعل مع نفسه . فالجسيمات ما دون الذرية لا تتصرف كموجات و لا كجسيمات عادية و لا كغيمات أو سحابات مجهرية و لا ككرات البليارد و لا ككتل مربوطة أو معلقة براسورات أو سبرنكات ressorts، بل ولا تشبه أي شيء آخر معروف، كما قال العالم الفذ ريشارد فاينمان Richard Feynman الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1965 وأحد أهم العلماء الفيزيائين المؤثرين في منتصف القرن الماضي. فأساس الميكانيك الكوانتي أو الكمومي هو أن بوسع الجسيم الأولي أن يكون في أماكن ومواقع مختلفة في آن واحد وما تبقى هو محاول فهم تأثير ذلك وتداعياته على العالم الماكروسكوبي الكبير. وكانت أولى المحاولات هي تجربة شقي أو فتحتي يونغ الطوليتين fentes de young، وعرفنا من خلالها أن الإلكترون لا يسير أو يتنقل على شكل خط مستقيم من النقط أ إلى النقطة ب، بل يتخذ عدد لا متناهي من الطرق الممكنة، وهو سلوك يمكن تشبيهه بالموجة على سطح الماء، وبهذا أدخلت الجسيمات الكمومية أو الكوانتية للفيزياء المعاصرة مبدأ الريبة أو مبدأ عدم اليقين principe d'incertitude، ولاستيعابه وفهمه يتعين تعريف وشرح مفهوم الاحتمال probabilité، وهذا المفهوم موجود، ليس فقط في النظرية الكمومية أو الكوانتية فحسب،فهي تستخدم باستمرار وبانتظام في سلسلة من الحالات، من الرهانات في سباقات الخيل إلى الترموديناميك، بيد أن اللجوء للإحتمالية في الحالة الأخيرة يعود إلى درجة معينة من الجهل لجزء من الواقع وليس لسبب جوهري، فالواقع ليس مكشوفاً بكليته وإنما هناك جزء خفي منه لاتدركه الحواس. لنفكر في لعبة الزهر أو النرد وهي لعبة الصدفة المحضة، أو لعبة " طرة كتبة كما نقول في اللهجة العراقية" أي وجهي العملة المقذوفة في الهواء لذلك فإن الإحتمال ما هو إلا تعبير عن جهلنا أو عدم معرفتنا المسبقة بالنتائج في أي نظام كان. فلو امتلكنا كافة المعطيات اللازمة والدقيقة التي تتدخل في عملية قذف قطعة نقود في الهواء وانتظار سقوطها على الأرض على أحد وجهيها الكتابة و أو الصورة، مثل القوى الأخرى والسرعات والجاذبية وحركات الهواء ودرجة الحرارة الخ ... عندها يمكننا مبدئياً أن نقدر ونتوقع على أية جهة ستسقط قطعة النقود. فانبثاق الإحتمالية في هذا الظرف الخاص هو إنعكاس لافتقادنا للمعرفة بشأن نظام ما. والحال إن الإحتماليات في النظرية الكوانتية أو الكمومية أمر جوهري . فإذا لم نتمكن من توقع وجود جسيم في مكان بدلاً من مكان أخر، فهذا ليس عائداً لجهلنا، فليس بمقدورنا من الناحية المبدئية، التكهن بموقع الجسيم وسرعته بدقة متناهية في آن واحد. وكل ما يمكننا التكهن به بدقة مطلقة هو إحتمال وجود الجسيم في منطقة ما في لحظة ما. تطلب الأمر عقود طويلة كي يتقبل العلماء وعلى رأسهم آينشتين نفسه، أنه يوجد في قلب الطبيعة وعمقها المجهول عمليات عشوائية غير منتظمة. في حين أثبتت التجارب العلمية الحديثة أن عالم اللامتناهي في الصغر هو بهذه الهيئة ومبني على هذه الشاكلة. فجسيم كمومي ما يتواجد في منطقة معينة وفي لحظة معينة يمكن أن يتواجد بعد جزء متناهي من الثانية في أي مكان آخر في الكون، بل يمكنه أن يتواجد على بعد متر من موقعه الأول، وعلى بعد مليار سنة ضوئية في نفس الوقت. مرة أخرى علينا أن نضع مسلماتنا وأحكامنا المسبقة وبديهياتنا في العالم على جنب عندما نتعامل معه من خلال النظرية الكمومية .

ما تقدم يوحي بأن العالم الكمومي أو الكوانتي Monde Quantique هو عالم فوضوي تحكمه الفوضى monde ananrchique gouverné par le chaos، وهي فرضية محيرة لأننا تعلمنا العكس وتعودنا على نقيض ذلك أي أن العالم منظم تحكمه القوانين الفيزيائية التي لاتنتهك ويخضع لنظام صارم دقيق. فما هو السبيل للجمع والتوفيق بين الفوضى البادية أو الظاهرة للعالم الكمومي مع الاستقرار الملموس والمحسوس للعالم الواقعي؟ بما أن المادة مكونة أساساً من الفراغ فماهي الظاهرة التي تمنع اختفاء الأرض التي تتواجد تحت أقدامنا. يجيبنا العلم بأن كل ذرة في الكون المرئي مرتبطة داخلياً وعلى نحو وثيق بغيرها من الذرات. إن فكرة كون الإلكترونات تبقى مرتبطة آنياً ولو على بعد مع غيرها يمكن أن يمثل ظاهرياً، انتهاكاً لنظرية النسبية العامة لآينشتين،ولكن في واقع الأمر هو على العكس من ذلك تماماً. فلا داعي للطعن أو للتحدي للعلاقة القائمة بين السبب والنتيجة والعلة والمعلول. وعلى هذا الأساس يمكن لبعض الإعدادات أن تنقل المعلومات بسرعة تفوق سرعة الضوء، وهذا ما أثار حفيظة وقلق آينشتين سنة 1935 ولم يحبذ الوصف الذي ساد آنذاك وهو " الفعل الخارق للطبيعة عن بعد action surnaturelle à distance، ومع الوقت توضح للعلماء استحالة استغلال هذه الحالة عن العلاقات الآنية عن بعد لنقل المعلومة بسرعة تفوق سرعة الضوء وبالتالي لم تعد هناك حاجة لمراجعة وطعن المسلمة عن السبب والنتيجة والعلة والمعلول، ومن هذه التعددية غير المنظمة للقفزات الكمومية أو الكوانتية، تبرز حينئذ الخصائص المألوفة لحاجياتنا اليومية . وبمعنىً ما فإن كل إلكترون وبروتون ونيوترون في جسمنا يستكشف كل الكون، وعند حساب المجموع الكلي لتلك الاستكشافات explorations، نعثر على العالم الذي استقرت فيه ذراتنا في حالة من الانتظام المستقر لمائة عام أو أكثر على الأقل. بعبارة أخرى، كل شيء يحدث كما لو أن كل إلكترون يعرف الحالة الكوانتية أو الكمومية لمن يتواجد في الطرف الآخر من الكون من باقي الإلكترونات، وهو أفق مذهل ومحير وفاتن ومقلق. وهناك علماء آخرون طليعيون وجريئون يذهبون إلى ابعد من ذلك. فالخصائص الكمومية أو الكوانتية توحي بوجود عوالم وأكوان متعددة وواقع متعدد متوازي في أبعاد متعددة ومتوازية أو متداخلة ما يعني أن الكون المرئي يمكن أن يتواجد في حالة تراكب superposition، يتوافق مع كافة الاحتمالات والإمكانيات الممكنة، وإننا لاندرك من خلال المعايشة اليومية، سوى جزء ضئيل جداً من واقع أشمل وأكمل وأعقد وأكبر مما تتصوره عقولنا .

يتبع