اكتسبت وسائل التواصل الاجتماعي أهميتها في بداية ظهورها وانتشارها من قيمتها كآلية لبناء شبكات علاقات اجتماعية غير رسمية بين ملايين البشر من مستخدميها، حيث ترجمت بالفعل مفهوم القرية الكونية الصغيرة عبر الفضاء السيبراني، أي أنها كانت وسيلة من وسائل العولمة و "نمذجة" العالم، بمعنى الاسهام في تكريس نموذج قيمي موحد بين ملايين البشر، وهو بطبيعة الحال النموذج القيمي الغربي، أو بالأدق الأمريكي، سواء في التفكير أو القيم أو العادات أو حتى نمط الغذاء والأزياء مروراً بالغناء والموسيقى وغيرها.
واستخدمت وسائل التواصل في المنطقة العربية بفاعلية كبيرة في إشعال الاحتجاجات والاضطرابات في دول عربية عدة منذ نهاية عام 2010 وحتى الآن، وحادت بذلك عن هدفها "المعلن"، وإن كنت اعتقد شخصياً أن توظيفها في أغراض أخرى سياسية واستراتيجية لم يكن بعيد عن تفكير الكثيرين، على الأقل من الدوائر المعنية بهذه الأغراض والأهداف في الدول الغربية.
سبق أن قلت أنني لست من هواة التحليل في إطار "نظرية المؤامرة"، ولكني أؤمن أيضاً أن تجاهل هذه النظرية في تفسير الأحداث والمواقف يعد نوع من السذاجة البحثية لأنها تمثل أحد مفاتيح البحث عن مداخل لفهم الكثير من الأمور في المنطقة والعالم على حد سواء. وبعيداً عن هذه النظرية وغيرها،، فإن ماهو قائم بالفعل أن هناك ربط مؤكد بين ما تلقاه بعض شباب "أكاديميات التغيير" من دروس ومحاضرات من ناحية ووسائل التواصل الاجتماعي من ناحية ثانية، حيث كان التركيز كبيراً على دور هذه الوسائل في إحداث التغيير وإطلاق شرارته، وحشد الشباب، الذين يمثلون الشريحة الأكبر من مستخدمي هذه الوسائل لإلهاب حماس الشارع واستقطاب البسطاء ورائهم في حراك يبدو أنه عشوائي، ولكنه منظم أشد التنظيم.
يلحظ المراقب أن وسائل التواصل الادتماعي قد تحولت في الآونة الأخيرة من ساحة لتبادل الاتهامات والانتقادات وأحيانا السباب بين بعض مستخدميها إلى ساحات لنشر الشائعات وأداة خطيرة من أدوات تقويض الأمن والسلم الاجتماعي، لاسيما بعد أن باتت الشائعات والمؤامرات تطال الجيوش الوطنية المتبقية في عالمنا العربي، ولذا اعتقد أن دور هذه الوسائل المدمر بات يفوق خطورتها وتأثيرها في بدايات الاضطرابات العربية نهاية عام 2010، حيث جمعت هذه الوسائل الآن أعداد مستخدمين تتجاوز بكثير نظرائهم في تلك الفترة، كما أنها استقطبت مراحلة عمرية متفاوتة ومن طبقات اجتماعية وتعليمية مختلفة، ولم تعد تقتصر على شريحة الشباب، وبالتالي تحولت إلى ساحة صراع افتراضية هائلة التأثير.
يمكن لأي باحث اليوم تعرف الأوضاع في أي بلد عربي من خلال مسح عشوائي سريع لما ينشر أو يتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولاسيما موقعي "فيسبوك" و"تويتر"، اللذان تتفاوت معدلات انتشارهما بحسب عوامل وخصائص الموقعين والمستخدمين أنفسهم في كل بلد عربي على حدة. والصورة لا تكاد تخفى على أحد، ولكن نقطة التحول في هذا المشهد تتمثل ـ باعتقادي ـ في تحول وسائل الاعلام التقليدية، ولاسيما الفضائيات التلفزيونية، إلى دور "التابع"، الذي يلهث وراء وسائل التواصل الاجتماعي، ويصبح مثل "الصدى" الذي يردد ما يتداول فيها من صور ومشاهد وتعليقات وأخبار، حيث أصبحت هذه الوسائل المادة شبه الوحيدة، التي تنطلق منها برامج الثرثرة الليلية في الفضائيات العربية.
إحدى إشكاليات وسائل التواصل الاجتماعي تكمن في غياب القوانين المؤطرة لاستخدامها، أو صعوبة تطبيق هذه القوانين في ظل وجود أعداد مليونية هائلة من المستخدمين على مدار الساعة، ما يجعل فكرة الرقابة وتفعيل القانون فكرة غير واقعية في كثير من الحالات، لاسيما في ما يتعلق بالحسابات الوهمية وطرق التحايل الأخرى.
هناك قوانين ضابطة لوسائل التواصل الاجتماعي في دول عربية عدة، وفي مقدمتها دولة الامارات العربية المتحدة، التي استبقت هذه الفوضى الشبكية بتوفير سياجات قانونية تحمي المستخدمين والمجتمع في آن واحد، حيث كانت الرؤية الاستراتيجية على هذا الصعيد واضحة، حيث كانت ارهاصات التوظيف التآمري لهذه الوسائل الاعلامية الجديدة واضحة للعيان منذ عام 2011، ورغم أن الجميع كان ـ ولا يزال ـ يتلمس التأثيرات والأعراض الخبيثة لهذا الداء، فإن هناك من ترك الحبل على الغارب لهذه الوسائل كي تستبيح المجتمع وتنخر في قواعده وتنشر الفوضى والاضطراب في عقول شبابه وحتى كهوله.
ما نراه الآن ربما يكون تأثيراً ضخما لوسائل التواصل الاجتماعي مقارنة بما سبق، ولكن قد يكون أيضاً قمة جبل جليد لم يظهر بعد في مجتمعاتنا ودولنا، فقد تحولت ساحات الفيسبوك وتويتر إلى ساحات افتراضية لنشر الفوضى والعبث بمقدرات الشعوب ومصالحها الاستراتيجية على مدار الساعة، وتحولت بعض الصفحات الفيسبوكية إلى نقاط تجميع وانطلاق للمحتوى الاعلامي المدمر، وهناك مختبرات على درجة كبيرة من الاحتراف تنتج الصور والمواد الاعلامية "المفبركة"، التي تمتلك قدرات تدميرية قد يصعب احتواؤها في مراحلة قادمة، والأمر لم يعد يقتصر على تنظيمات ارهابية تعمل بحرية تامة في الساحات الافتراضية، بل هناك دول وأجهزة استخبارات وأفراد وخبراء على درجة عالية من الاحتراف، ويمتلكون اموالاً باهظة لتحقيق أهداف استراتيجية محددة.
لا اعتقد أن توفير حوائط صد الكترونية مقابلة لهذه المؤامرات بديل كاف للتصدي لخطرها المدمر، فالدفاعات الالكترونية تبقى دائما في خانة "رد الفعل"، وتفاجىء كل ساعة بضربات جديدة ما تلبث أن تتعامل معها، حتى تتلقى ما هو أشد في كل موضوع أو قضية أو ملف على حدة.
إجمالاً، من الصعب أن تبقى مصائر شعوب وأمن واستقرار دول بين أيد عابثة، وبين مايقال عن الحريات، والسيناريوهات الكارثية التي وقعت فيها بعض الشعوب العربية وتكاد تسقط فيها شعوب أخرى، وقفات حاسمة يجب أن تتحقق، وإلا فالأسوأ قادم.
&