&
الحرب الدائرة حالياً بين الترك و الكورد هي في الحقيقة ليست صراعاً بين حزب العمال الكوردستاني و حكومة أردوغان فقط، و لكنه صراع حول " ما الذي تعنيه كلمة "المواطن" في تركيا. و لهذا السبب ليست هناك نهاية قريبة لسفك الدماء في تركيا. &
&
عادت الحرب ثانيةً بين الجيش التركي و حزب العمال الكوردستاني و يبدوا ان الحرب هذه المرة ستكون أكثر شراسةً من أي وقت مضى. على مدى الأشهر الستة الماضية، قتل اكثر من 500 مدني في هذه الحرب. في شهري شباط و آذار، ضرب أنتحاريوا حزب العمال الكوردستاني قلب العاصمة التركية، قاتلين حوالي 67 شخصاً في منطقة قيزلاي المزدحمة و الواقعة على مرمى خطوات من مكاتب رئيس الوزراء التركي. و في ذات الوقت، حاصر الجيش التركي حواضن حزب العمال في مدن الجزيرة و نصيبين وغيرها، و بدأ في تدمير البنى و الشقق السكنية و إجبار المدنيين على الهروب. & &
&
يمكن تفسير تكثيف و إشتداد المعارك في الصراع الذي دام اكثر من 30 عاماً: بفشل المفاوضات التي كانت جارية بين تركيا و حزب العمال، سياسة حزب العدالة و التنمية في الانتخابات التركية، تمزق سوريا في حربها الاهلية، النزاعات الكوردية السياسية الداخلية، و الغباء المشترك بين الحكومة التركية و حزب العمال. و لكن الأسئلة الاخرى التي تتعلق بموقع الكورد في المجتمع التركي بشكل عام &لا يمكن نسيانها في المعادلة لأن هذه الحرب تتعلق في المقام الاول بصراع الامتين الكوردية و التركية على مسألة الهوية القومية. أي أنها حرب بين الكورد و الترك و من الممكن جداً ان يطول سفك الدماء فيها لأكثر من 30 عاماً اخرى.
الدولة التركية الحديثة لا تندرج أبداَ ضمن الدول التي يمكن تصنيفها كدول مصطنعة مثل العراق وسوريا و الاردن والتي زوٍرت بعد الحرب العالمية الاولى. و بالعكس، تركيا تصنف ضمن الدول الحقيقية حسب الحسابات السياسية التقليدية في الشرق الاوسط، حالها حال مصر و ايران. &&
و لكن و بالرغم من ان تركيا الحديثة لم تعتمد في وجودها على الدول الاستعمارية في لندن &باريس، و لكنها ايضاً، كانت و الى حدٍ كبير، نتاج مخيلة شخص يدعى مصطفى كمال المعروف عالمياً بأتاتورك او ابو الاتراك و الذي تمكن من" تزوير تشكيل دولة و امة ذات عرق واحد" لم يكن لها وجود سابقاً من بين اشلاء امبراطورية متعددة الاعراق. و من اجل انجاح بناء هذه الدولة، تم ملء ادمغة سكانها بأساطير حول "التوركوية" و الترك كعرق متفوق، والربط الجدلي بين الترك و الارض و ما معنى ان تكون "تركياً". و ليس هناك ادل على هذا مثل القسم الذي فرض على طلبة المدارس في عموم تركيا على ان يقسموا به كل يوم في بداية الدوام، طيلة الثمانين عاماً الماضية: أنا تركي، شريف و شغول. مثلي هو حماية الصغير و احترام الكبير، ان أحب وطني و امتي اكثر من حبي لنفسي. هدفي هو النهوض و التقدم. يا أتاتورك العظيم، اني اقسم على المضي قدماً في الطريق الذي عبًدته و سلكته لنا و تحقيق الاهداف التي وضعتها لنا. سيكون وجودي مكرساً لخدمة وجود تركيا. كم هو سعيد الذي يقول أنا تركي!.&
و على الرغم من ان الحكومة أوقفت هذه الممارسة في عام 2013، على الارجح بسبب تمجيد القسم لشخص اتاتورك و الذي يتعارض كلياً مع اعتقادات و نهج حزب العدالة و التنمية، و لكن "تعويذة و طقوس التركوية" ما زال مستمرة، و كذلك الاساطير التي تؤكد ان الترك هم سكان الاناضول الاصليين و التعصب القومي المتشدد للطبقة السياسية التركية. &
لقد سعى اتاتورك و مساعدوه على تغيير وجهة القيم و الولاءات لدى مواطني الجمهورية الجديدة. اي بدلاً من يكونوا موالين للمجتمع الاسلامي السياسي الذي يستمد سلطته و شرعيته من الاسلام، اجبرت شعوب الاناضول على الولاء لأمة و دولة تستمد الطبقة السياسية فيها الشرعية من "التركوية" و التمسك بقيمها. &&
لقد نجح أتاتورك في مسعاه نجاحاً باهراً، و خلَد اسمه كواحد من اشهر الشخصيات في بداية القرن العشرين. و لكن الهوية التركية و مجموعة قيمها و التي عمل اتاتورك و مساعدوه على غرسها في أدمغة الترك و التي باتت تعرف فيما بعد "بالكمالية"لم تصبح مسيطرة بشكل مطلق على الترك، لانها لو كانت فعلاً مسيطرة كليةً، لما اضطر الترك الى اللجوء الى وسائل اخرى لتمجيد أتاتورك مثل توزيع البوسترات و التماثيل النصفية لأتاتورك في كل ميادين و دوائر البريد و الابنية الحكومية و الرسمية في كافة المدن و القصبات التركية. &
لقد تم اعتناق ما يسمى بالقيم الكمالية من قبل العديد من مواطني تركيا، و لكن الترك تخوَفوا من الاشارة الى مجموعتين مهمتين عند كتابتهم للتاريخ التركي: مجموعة المتديينين التقليديين و الكورد.&
من اجل الانعتاق من تراث الامبراطورية العثمانية و تعزيز الجمهورية التركية الحديثة، كان على اتاتورك عزل جمهوريته عن الاسلام. ثم أقدم اتاتورك على خطوته التاريخية في عام 1924، و ألغى الخلافة العثمانية؛ من خلال الغاء مكتب و منصب "شيخ الاسلام"و الذي كان منصباً مهماً و يتولى دوراً اساسياً في تثقيف الترك بأموره الدينية؛ و كما و أغلق وزارة الشؤون الدينية و المدارس و المؤسسات الدينية التابعة لها. و من ثمً حظر التجمعات الصوفية "الطريقة" و أغلق اماكن اقامة شرائعها. في عام 1928، تم حذف المادة 2 من دستور عام 1924، و الذي كانت تنص على الاسلام هو دين الدولة الرسمي.&
كما ان الكمالية عملت على عزل الكورد ايضاً و تم طمس و إنكار هويتهم اللغوية و العرقية و الجغرافية و استبدالها بأساطير ملفقة في كل ما يخص الكورد في ادبيات التاريخ التركي، حتى بات يشار الى الكورد في المعجم الرسمي التركي "بأتراك الجبال". العديد من الكورد تم احتوائهم و ادماجهم في الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية التركية مثل السيد محمد شمشيك، نائب رئيس الوزراء في تركيا. ان وجود السيد شمشيك في الحكومة يحمد عليه، و لكن التوتر بين مالذي يعنيه ان تكون تركياً او كوردياً فعلياً لا يزال قائماً. &&
و لعل اوضح الامثلة حول هذا الموضوع هي الحرب بين حزب العمال الكوردستاني و الدولة التركية و التي بدأت في عام 1984. يعتبر حزب العمال منظمة قومية صنفت كإرهابية، يقودها السيد عبدالله اوجلان، و الذي و بسبب افكاره الماركسية، إعتبر البعض هذه الحرب كجزء من الحرب الباردة التي كانت دائرة بين القطبين الشيوعي و الرأسمالي في ذلك الحين. و لكن في الحقيقة، كانت الحرب و منذ انطلاقتها الاولى، صراعاً بين شعبين و قوميتين والهويات الاثنية المرتبطة بهما. &&
عندما وصل حزب العدالة و التنمية الى السلطة في عام 2002، شجًع الحزب الترك على ابراز هويتهم الدينية بحرية. و لقد تم معارضة هذا التوجه من قبل العلمانيين الترك و عدد لا يستهان به من الغربيين على الرغم من اعتبار بعض القادة و من بينهم اوباما و جورج بوش، تركيا كنموذج يمكن ان يحتذى به في دول الشرق الاوسط و خاصة العرب منهم. &
&ان عدم تأكيد حزب العدالة و التنمية على "الكمالية" كما كانت تعرَف سابقاً من قبل النخبة السياسية التركية، فسحت المجال امام بروز مجتمع تركي اكثر شموليةً و إنفتاحاً. لقد ظن حزب العدالة و التنمية ان تبنيه لمفهوم "الاسلاموية" بين الترك و الكورد قد يقلل من التوتر و الصراع بين الهويتين القوميتين المتصارعتين. و لهذا السبب دأب الكورد المتدينون على دعم حزب العدالة و رئيسه اردوغان. &
ان مفهوم "الهوية الاسلامية" و نجاحات حزب العدالة الانتخابية، وفًرت لأردوغان فرصة مثالية لحل المشكلة الكوردية في تركيا. و لفترة معينة من الزمن، بدا و كأن حل المشكلة اصبح في متناول اليد من خلال: قيام حكومة اردوغان ببعض الاصلاحات و التي خففت بشكل ملحوظ من القيود على الحقوق الثقافية و التربوية الكوردية، و إنفاق و اشتثمار اكثر من 12 مليار دولار في عام 2005 على المناطق ذات الأغلبية الكوردية.
في أواخر 2008 و بدايات 2009، كانت انقرة و الصحافة التركية مشغولة بما سماه الترك حينذٍ "بالنافذة الكوردية". كانت هذه الجهود تنصب على محاصرة حزب العمال اجتماعياً، ادماج الكورد بصورة اكبر في المجتمع التركي و بالتالي اضعاف النزعة القومية لدى الكورد. و لكن المتشددين و المتعصبين من القوميين الترك، أعاقوا ما كان يعتبر اكبر انفتاح تركي حكومي على الكورد. و عندما افشل القوميون ذلك الانفتاح، دخل اردوغان في حوار مباشر مع اوجلان و حزب العمال إنتهى الى حوار مسدود، ثم الى حرب دموية اخرى في تموز 2015.&
لقد دأب الكورد و الترك على لوم بعضهم البعض و التسبب في هذه النهاية المفجعة و التي وضعت كلا الطرفين التركي و الكوردي تحت الحصار في مدنهم و قراهم. في الحقيقة هناك الكثير من اللوم يمكن القاؤه على طرفي النزاع: السيد اردوغان، الذي رأى ان بإمكانه جني الكثير من الفوائد الانتخابية في حالة تفجر الحرب مع الكورد؛ قيادة حزب العمال الكوردستاني، التي لم تتحمل فكرة ان يتفوق حزب ديموقراطية الشعوب ذو النزعة الليبرالية اليسارية عليها في الاستحواذ على النفوذ و الاهمية لدى المجتمع الكوردي؛ قيام الجناح الشاب في حزب العمال بإغتيال اثنين من ضباط الشرطة في الصيف الماضي و هم نيام، كل هذا أشعل فتيل العنف بين الطرفين المتنازعين. &&
و لكن و بغض النظر عن كل الاسباب التي ادت الى عودة الحرب، ستستمد هذه الحرب ديمومتها من صراع الهويات في تركيا. على الرغم من ان اردوغان و حزبه وضعوا رؤية استجابت لمطامح العديد من الترك و الكورد على حدٍ سواء، إلاً انها فشلت في اصلاح المجتمع التركي و حل النزاع بين الهويتين التركية و الكوردية.&
اردوغان المدفوع برغبته الجامحة و ولعه بالسلطة و القائد الضرورة، رَكَن في النهاية الى نزعته القومية الصرفة قافلاً بذلك كل فرص المصالحة. في كانون الثاني، صرَح اردوغان ان حزب العمال الكوردستاني لا يختلف عن داعش، و طمأن الاتراك ان الحل يأتي فقط عندما تتمكن قواته الامنية من تصفية كل الارهابيين في المنطقة. &
في مقالته المشهورة" صراع الحضارات" وصف السيد صمويل هتنغتون تركيا بالممزقة. نعم هي كذلك، و لكن و بالعكس من نظرة هتنغتون، فان واقع الامور حالياً في تركيا، لا يتعلق برؤيته للمتناقضات بين القوى العلمانية التركية الرسمية و بين القوى التركية التي تعمل على بعث "النهضة الاسلامية" في تركيا او الرفض الغربي لتركيا، و لكن التمزق سينجم عن الصراع بين الهويتين القوميتين التركية و الكوردية.
لقد جاء اردوغان الى الحكم آملاً &ان يهدم الموروث الاتاتوركي و من ضمنه النزاع المزمن بين الترك و الكورد، و لكن و في سخرية مذهلة وللأسف الشديد، تفوق اردوغان على اتاتورك نفسه في إذكاء نار النزاع التركي-الكوردي.&
&