&

&
تتلمذ الشيوعيون البلاشفة في مدرسة ستالين فكانوا التلاميذ النجباء للمعلم لينين الذي وحده علّم العالم الماركسية الصحيحة . هؤلاء النجباء لا يطالبون اليوم الشيوعيين الذين ملأوا فضاء العالم عصفاً ثورياً خلال الربع الثاني من القرن العشرين حتى إذا ما كادت الثورة أن تؤتى أُكُلًها مع بداية الربع الثالث من ذات القرن حتى بدأ أوارها يخبو لينطفئ تماماً في الستينيات، هؤلاء النجباء لا يطالبون الشيوعيين المنحرفين أو الضالين بأكثر من قراءة وقائع وحقائق مسيرة الشيوعية التاريخية التي نقص قراءة علمية وموضوعية كي يستفيقوا من غيِّهم، فالماركسية ليست في النهاية أكثر من قراءة تاريخ التطور الاجتماعي قراءة علمية وموضوعية .&
قلنا فيما سبق أن انتفض البلاشفة عشية 7 نوفمبر 1917 (25 أكتوبر بالتقويم الشرقي) بناء على طلب وإلحاح من الشعب لاسقاط الحكومة البورجوازية المؤقتة، حكومة كيرانسكي، التي تنكرت للمبادئ الرئيسية لثورتها، ثورة فبراير شباط 1917، بل زادت في مساهمة روسيا في الحرب عوض الانسحاب منها كما اقتضى برنامج الثورة، انتفض البلاشفة لحماية استقلال روسيا وكانت قد سرت إشاعات تقول أن مفاوضات سرية تدور بين ألمانيا وانجلترا لاقتسام روسيا القيصرية بين الطرفين، وكانت قد دخلت جيوش ألمانيا الامبراطورية أراضي أوكرانيا وبلروسيا . كان هدف الانتفاضة الرئيسي الثاني هو وضع عربة الثورة البورجوازية على سكتها حتى النهاية بمثل ما كانت قد قررت الأممية الثانية في العام 1912 . ولذلك دعا لينين صبيحة الإنتفاضة مختلف الأحزاب الروسية للإشتراك في حكومته لكن تلك الأحزاب رفضت المشاركة لإعتقادها أن البلاشفة لن يستطيعوا الاحتفاظ بالسلطة طويلاً . وعليه كان أول مرسومين يوقعهما لينين هما مرسوم الأرض ومرسوم السلام باعتبارهما الهدفين الرئيسيين للثورة البورجوازية، كما أجرى انتخابات المجلس التشريعي في الشهر التالي وكان ذلك الهدف الرئيسي الثالث للثورة البورجوازية . بل زاد لينين في أن أكد في العام 1918 أن البلاشفة لم يتجاوزوا في السلطة حدود الثورة البورجوازية .
&
الألمان، وكانوا قد احتلوا أوكرانيا وبلروسيا، تعسفوا بقبول عرض الصلح السلمي من لينين القاضي بانسحاب روسيا من الحرب محتفظة بسيادتها على كامل أراضيها . وزير خارجية الحكومة السوفياتية ليون تروتسكي رفض توقيع معاهدة الصلح كما عرضها الألمان في مدينة (برست لوتوفسك) خلافاً لتعليمات لينين له بالتوقيع . عاد تروتسكي إلى موسكو وفي ذهنه أن الفرصة واتته أخيراً لاسقاط لينين والحلول محله وهو الحلم الذي راودة طيلة عمرة ـ وورثه عنه خروشتشوف في الخمسينيات . عاد إلى موسكو يتهم لينين بالعمالة للألمان، ودعا إلى إسقاط لينين الأمر الذي لقي قبولا عند أتباع تروتسكي والبورجوازية المعادية . بعد أيام قليلة تقدم الألمان إلى مواقع تهدد أمن موسكو ولينينغراد مما أدى إلى تراجع تروتسكي وإعلانه عن خطأ موقفه، وانتهى إلى القبول بصلح برست لوتوفسك وبشروط أكثر جوراً . & & & & & &&
لئن تراجع وزير خارجية البلاشفة ليون تروتسكي عن مسعى إسقاط لينين إلا أن البورجوازية بمختلف تشكيلاتها لم تتراجع وشكلت إئتلافاً واسعاً لاستعادة السلطة من البلاشفة وأعلنت الحرب عليهم حال توقيع صلح برست لوتوفسك ـ وهنا لا يجوز إعفاء تروتسكي من إضرام نار الحرب الأهلية التي قدحها توقيع معاهدة الصلح في مارس آذار 1918 والتي كان تروتسكي قبل أيام قد ندد بها إلى حد اتهام لينين بالعمالة لألمانيا . قام إئتلاف بين جميع الأحزاب البورجوازية وأنصار القيصرية ـ الإشتراكيين الثوريين وهم أوسع الأحزاب والمناشفة وهم حزب تروتسكي قبل ايلول 1917 وحزب الدستوريين الديموقراطيين (الكاديت) ـ في جبهة واحدة أعلنت حرب الإبادة على البلاشفة بحجة صلح برست لوتوفسك الجائر.
التشريح المفصل للحرب الأهلية (مارس 1918 – مارس 1919) يدل بصورة قاطعة على أن حزب البلاشفة كان الحزب الأصلب تماسكاً والأقوى تنظيماً والأكثر تعبيراً عن طموحات جماهير الشعب مما مكنه بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، وقد ملّكهم البلاشفة قطع أراض زراعية يتعيّشون عليها، مكنه من سحق الثورة المضادة وهو ما وضع حداً نهائياً وقاطعاً لأي تقدم للثورة البورجوازية إذ لا يمكن أن يكون هناك ثورة بورجوازية بدون &بورجوازية .&
في مارس 1919 كانت كتائب العمال والفلاحين والجنود قد سحقت مختلف فصائل البورجوازية الدينامية الروسية وهو ما قضى بإنهاء مسار الثورة البورجوازية قبل أن تبدأ وفتح مسار الثورة الاشتراكية قبل أن تستحق الأمر الذي تسببت به البورجوازبة نفسها التي رفضت رفضاً قاطعاً أن يتم إنجاز الثورة البورجوازية بقيادة الشيوعيين البلاشفة . لذلك يمكن القول أن من استجلب الاشتراكية إلى روسيا قبل استحقاقها هو فعلاً البورجوازية وليس لينين والبلاشفة .
وهكذا أعلن لينين في 6 مارس آذار 1919 إنطلاق الثورة الاشتراكية العالمية بدءاً من موسكو، الثورة التي استشرفها ماركس وقضى حياته يعمل لأجلها . أعلنها لينين في الاجتماع التأسيسي للأممية الشيوعية الكومنتيرن (Comintern) الذي حضره أحزاب شيوعية واشتراكية من جميع البلدان الأوروبية وحزب العمل الاشتراكي الأمريكي . تكفلت هذه الأحزاب بقيادة البروليتاريا في بلدانها ضد النظام الرأسمالي في إطار الثورة الاشتراكية . أما في البلدان المستعمرة والتابعة فكان شرط قبول أحزابها الشيوعية أعضاء كاملة العضوية في الأممية الكومنتيرن هو إسناد الحزب الشيوعي للبورجوازية الوطنية في ثورة التحرر الوطني .
&
لينين يعلن الثورة الاشتراكية في العالم وأن مصائر العالم &تقررها البروليتاريا في روسيا، يعلن كل ذلك قبل أن تقرر البروليتاريا الروسية مصائر روسيا نفسها وقبل أن يكون هناك اشتراكية في روسيا وقد حالت الحرب الأهلية دون تحقيق أية خطوة على طريق الاشتراكية . إعلان الثورة الاشتراكية في العالم كله جاء يمس أمن الأنظمة الرأسمالية في العالم كله بالطبع حيث تطلب ذلك من الأحزاب الإشتراكية في البلدان الرأسمالية العمل الحثيث على تفكيك النظام الرأسمالي واستلام السلطة وهو ما اعتبرته الدول الرأسمالية إعلان حرب عليها وأن العدو بات على العتبة . لذلك جندت أربع عشرة دولة من كافة الدول الرأسمالية وتوابعها تسعة عشر جيشا كامل التجهيزات غزت روسيا البلشفية "لخنق البلشفية في مهدها" . مواجهة البروليتاريا بقيادة البلاشفة لأولئك الغزاة في حروب التدخل المصيرية الصعبة أثبتت بصورة قاطعة صحة السياسة اللينينية عندما أكد لينين أن مصائر العالم تقررها البروليتاريا الروسية وأن نجاح الثورة الشيوعية غدا مضموناً ـ وهو ما نتوقف عنده في سائر الحلقات القادمة دحضاً لترهات انتهاء الشيوعية . لقد نجحت البروليتاريا الروسية بقيادة البلاشفة في خنق كل الغزاة الذين جاءوا لخنق البلشفية . تطلبت تلك المواجهات الصعبة أن يأخذ الشيوعيون بسياسة "الشيوعية الحربية" وهو ما يعني توجيه كل الإنتاج لخدمة الحرب . ويكفي العلم في هذا السياق أن بريطانيا وكانت أغنى دولة في العالم انتهت إلى الإفلاس بفعل حربها على البلشفية وكانت قد جهزت ثلاثة جيوش للتدخل في روسيا وانتهت إلى الهزيمة .
في غمرة حروب التدخل الصعبة والأخذ بسياسة "الشيوعية الحربية" التي اقتضت أن يعيش الشعب على الكفاف بل وفي غائلة الجوع، كل ذلك اقتضى أن يدلل الشيوعيون على بيضتهم ! كل هذه الدماء والتضحيات والجوع مقابل ماذا !! لم تغب هذه المسألة عن ذهن لينين وقيادة الحزب . فكلما علا دوي المدافع في فضاءات روسيا على امتداد &قارتي آسيا وأوروبا كلما ألح على ذهن لينين أهداف تلك الحرب وملايين العمال والفلاحين يخوضون غمارها ببسالة وتضحيات لا عهد لبني البشر بمثلها . ما الذي ستكون عليه دولة هؤلاء العمال والفلاحين بعد انتصارهم في الحرب وكنس المعتدين خارج البلاد !؟
في ذلك السياق شغلت الصفوف الأولى في قيادة الحزب ثلاث مسائل على درجة عظمى من الأهمية وهي ..
(1) تطبيق الإشتراكية بالرغم من أن روسيا القيصرية كانت متخلفة صناعياً . صحيح أن ماركس وإنجلز كانا قد تنبئآ في أن تقدح شرارة الثورة الإشتراكية في روسيا بداية لكن لتقوم الإشتراكية في ألمانيا وإنجلترا قبل أن تعود تمتد رجوعاً إلى روسيا .
(2) حدود الثورة ومسارها حيث كان ماركس قد وصف الثورة الاشتراكية بالثورة الدائمة فكان في حالة الثورة البلشفية في روسيا أن يكون الإمتداد أفقياً وتتجاوز قوى الثورة حدود روسيا لتعبر بولندا إلى ألمانيا كما أصر تروتسكي على ذلك أم تمتد رأسياً، أي أن تتطور قوى الثورة في روسيا كي تستطيع عبور الحدود إلى أورويا الغربية كما رأى لينين وهو لم ينسَ أن الإنتفاضة البلشفية ما كانت لتتحول إلى ثورة اشتراكية بغير مساعدة كبيرة وأساسية من الفلاحين الفقراء .
(3) وحدة الحزب ـ أن يقوم في روسيا القيصرية أقوى الأحزاب الاشتراكية في أوروبا أمر يدعو للتساؤل . إذ كان في الحزب عشية انتفاضة أكتوبر 240000 عضوا منتظماً في تنظيم لينيني حديدي وهو ما يقطع على أن غالبية الأعضاء وخاصة في الصفوف المتقدمة ليسوا من العمال . وليس مصادفة أن يكون هذا موضوع أول كتاب خطه ستالين 1901 (الواجبات الملحة لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا) وهو الحزب الشيوعي فيما بعد . تشكيلة من هذا القوام لا بد أن يعتريها وهن فكري يعمل على تشتت تنظيمي .
طيلة سنوات حروب التدخل الثلاثة، من مارس آذار 1918 وحتى مارس آذار 1921 دارت على الصعيد النظري نقاشات نشطة بين صفوف الحزب حول هذه المسائل الثلاث الهامة . احتدام النقاش حول هذه المسائل الهامة أتاح الفرصة لتروتسكي لأن يشكّل كتلة داخل الحزب ضمت أنصاره والمنشفيك سابقاً والفوضويين بإدعاء أنها على يسار الحزب الأمر الذي استحضر تلقائياً قضية وحدة الحزب . &
لا يحتاج المرء لذكاء كبير كي يكتشف أن تشكيل تروتسكي لكتلة من المناشفة والفوضويين تلتف حولة بدعوى اليساروية لم يكن ذلك إلا لمواجهة التيار اللينيني في الحزب . &عداء تروتسكي للتيار اللينيني البولشفي منذ العام 1903 لم ينقطع بانضمام تروتسكي للبلاشفة في سبتمبر ايلول 1917 . وهكذا علمنا التاريخ أن كل الدعاوى اليساروية ـ وهي تنتشر اليوم انتشار الفطر ـ لا تصب في غير طاحون العداء للبروليتاريا وللإنسانية بالتالي .&
&
&