طالما أن الماركسية ليست في التحليل الأخير إلا القراءة العلمية الموضوعية للتاريخ فإذاً ليس ماركسيا من يجهل ما حاق يالثورة الاشتراكية السوفياتية من أخطار ترتبت على دحر وسحق العدوان النازي عليها . القارئ الدقيق المتفقه يقرأ ذلك في الندوة التي عقدها الحزب الشيوعي في العام 1951 وضمت كبار قادة الحزب ونخبة من علماء الإقتصاد لتنظر وتتدارس في " المسائل الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي " . &كنت قرأت بعض المناقشات التي دارت في تلك الندوة التاريخية في العام 1956 ولم يعجبني ستالين حينذاك . فستالين الذي كان يؤكد على أنه كلما تقدم العبور الإشتراكي كلما ازداد الصراع الطبقي سعيرا، نقرأه في تلك الندوة يتحدث عن الإخاء الطبقي في المجتمع السوفياتي ويخفف من غلواء مولوتوف وقادة آخرين في مطالبتهم بتسعير الصراع الطبقي إلى حد الإلغاء الكلّي لطبقة الفلاحين بقرار من الدولة، كما إلغاء كل أثر لقانون القيمة الرأسمالي . &ستالين وقف ضد تلك السياسات وكما لو أنه من حزب المحافظين .

تبيّن لنا فيما بعد أن ستالين كان الرجل الوحيد في العالم الذي كان يدرك أن أخطاراً حقيقية تحيق بالثورة الإشتراكية وأن تسعير الصراع الطبقي آنذاك من ىشأنه أن يستحضر بقوة تلك الأخطار التي هي من إفرازات الحرب داخل المجتمع السوفياتي وليس خارجه كما يعتقد العامة وحتى الكثيرين من الشيوعيين البسطاء .
أحد مَقاتل الستالينية، أو الأحرى مقتلها الوحيد، هو " السريّة " سرية العمل الشيوعي التي كانت النهج المقدس لدى ستالين . لا تراودنا أية شكوك اليوم في أنه لو كشف ستالين عن تلك الأخطار المحيقة بالثورة الاشتراكية وحذر الحزب الشيوعي من التهاون بوجهها لما حدث ما حدث وانهارت الثورة الاشتراكية العالمية وبات العالم اليوم يعاني ما يعاني من نكوص وفقدان معظم القيم الإتسانية عداك عن الفقر والجوع وتشوه بنية مختلف المجتمعات .
إنتهاجا للسرية المطلقة خطط ستالين أن يعالج تلك الأخطار المحيقة بالخطة الخمسية الخامسة التي هدفها المعلن هو الإرتقاء الأعلى بمستوى حياة الشعب، أما هدفها المضمر لدى ستالين وهو الأهم فكان استعادة البروليتاريا سلطاتها الدكتاتورية المطلقة لقبضتها الحديدية وقد فقدت أغلبها بفعل الحرب . العلاج الثاني الذي طالب به ستالين ورفضه الحزب كان تنحية كامل أعضاء النكتب السياسي بمن في ذلك ستالين نفسه عن مركز القرار . ففي المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في أكتوير/نوفمبر 1952 خطب ستالين يقول أن ثمة أخطاراً تهدد مستقبل الثورة ولمعالجة تلك الأخطار يجب استبدال قيادة الحزب والمكتب السياسي بكل أعضائة الذين جميعهم دخلوا سن الشيخوخة ولم يعودوا قادرين على العمل الشيوعي . لخيبة ستالين وخيبة الإنسانية جمعاء أيضاً لم يوافق أعضاء المؤتمر على ما طالب به ستالين وأعادوا انتخاب نفس الأعضاء جميعهم , عاد ستالين معارضاً انتخاب نفس القيادة ليطالب انتخاب إثني عشر عضواً من الشباب المتحمسين للثورة والعمل الشيوعي كيما يتشكل المكتب السياسي من 24 عضوا وليس من 12 عضواً فقط &" لأجل أن نكون أكثر اطمئناناً على مستقبل الثورة " ؛ وفعلاً انتخب المؤتمر اثني عشر عضوا آخرين وغدا المكتب السياسي للحزب، وهو أعلى سلطة في البلاد، يتشكل من 24 عضواً .
&
الطبيبة الشيوعية في المركز الطبي في الكرملين "ليديا تاميشوك" كانت في العام 1947 قد تقدمت بشكوى إلى أمن الدولة تقول أن هناك أطباء في المركز يعالجون قادة الحزب بعقاقير قاتلة وتسببت في وفاة أندريه جدانوف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي 1947 والكساندر تشيرباكوف عضو اللجنة المركزية ومرشح المكتب السياسي للحزب 1945 . وفي العام 1952 أعادت نفس الطبيبة الشكوى بمذكرة مرفوعة إلى ستالين وهو الدلالة على أن الأمر في غاية الجدية . في التحقيق تكشف أن هناك عصابة من الأطباء اليهود متورطون في النشاط الجرمي والعديد منهم سبق وأن كانوا أعضاء في المنظمة اليهودية المعادية للفاشية التي كان لافرنتي بيريا، عضو المكتب السياسي ووزير أمن الدولة، قد نظمها خلال الحرب الأمر الذي يدعو ستالين لأن يشك في تورط بيريا نفسه في تنظبم ذلك النشاط الجرمي وقد بدر من ستالين عدة إشارات بهذا المعنى .
بتقديري الشخصي أن الدعوة إلى العشاء في منزل ستالين لأربعة من أعضاء المكتب السياسي هم بيريا ومالنكوف وخروشتشوف وبولغانين في مساء الثامن والعشرين من فبراير شباط 1953 كانت مكرسة لاستجلاء شكوك ستالين في بيريا وربما في مالنكوف وخروشتشوف حيث أن مولوتوف رفيق العمر لستالين شكك في مذكراته باشتراك هؤلاء الثلاثة بتسميم ستالين في ذلك العشاء التاريخي، بل أفصح عن اعتقادة أن بيريا هو من قتل ستالين .
ليس لدي أدنى شك في أن بيريا علم مسبقاً بنوايا ستالين وأن التحقيقات مع الأطباء اليهود ستقود إليه مما سيؤدي إلى إعدامة فانتهز فرصة العشاء مع ستالين واستطاع أن يدس سم الجرذان (Warfarine) في شراب ستالين ـ لجنة من المتخصصين الأمريكان والروس حددوا نوع السم الذي قتل ستالين . أقوال بيريا ومنها تبجحة لمولوتوف بأنه هو من قضى على ستالين ـ وكانت علاقة مولوتوف آنذاك سيئة مع ستالين ـ وقيامه بعد أربعة أسابيع بإلغاء التحقيقات مع الأطباء اليهود وإخراجهم ن السجن بحكم أن القضية ملفقة واعتقال كبير المحققين في القضية وإعدامه وسحب جائزة لينين من ليديا ماريشوك لتدل دلالة قاطعة على أن بيريا هو من اغتال ستالين . وما كانت الطبيبة الشيوعية اتحصل على جائزة لينين وهي أرفع جائزة في الاتحاد السوفياتي قبل أن يثبت بالأدلة القاطعة على أن الأطباء اليهود كانوا ضليعين في الجريمة . وباعتقادي الشخصي أيضاً أن محاكمة بيريا السرية وإعدامه على عجل خلافاً للقواعد المرعية في الحزب والتي تستوجب المحاكمة العلنية بالكامل لأي قيادي في الحزب لولا تخوف خروشتشوف افتضاح مشاركته في اغتيال ستالين، وبتقدير مولوتوف أن خروشتشوف كان يعلم بالجريمة دون المشاركة فيها، والعلم المسبق في الجريمة قبل وقوعها دون الكشف عنها يعتبر مشاركة فعلية بالجريمة .
&
لقد ثبت في الواقع أن رحيل ستالين، أو ترحيله سواء بسواء، إنما كان العلامة الفارقة لبداية انهيار المشروع اللينيني للثورة الاشتراكية العالمية والتي كان لينين في إفتتاحه الإجتماع التأسيسي للأممية الشيوعية (Comintern) في السادس من مارس آذار 1919 قد أكد انتصارها على الصعيد العالمي . أعداء الإشتراكية وكتبة البورجوازية الوضيعة يقفزون عن هذه الحقيقة كيما يسوقوا على العامة أن اشتراكية خروشتشوف وبريجينيف إنما هي نفسها اشتراكية ستالين وقد حملت عوامل انهيارها منذ البداية !! &لتسويق مثل هذه المخادعة على الشعوب كما على البروليتاريا في العالم يقفز هؤلاء الأعداء وكتبة البورجوازية الوضيعة عن الحقائق التاريخية التالية ..
1. ستالين يؤكد في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في نوفمبر 1952 أن ثمة أخطاراً جدية على الثورة في ظل قيادة الحزب الحالية ولذلك يتوجب تنحيتها ولما لم يوافق المؤتمر على تنحيتها طلب ستالين انتخاب المؤتمر 12 عضوا يضافون إلى المكتب السياسي للحزب وهو ما كان .
2. فاضت روح ستالين في مساء الخامس من مارس آذار 1953 وفي صباح اليوم التالي اجتمع أعضاء المكتب السياسي الذين كان ستالين قد طالب بتنحيتهم وقرروا إلغاء قرار المؤتمر العام للحزب بتسمية الأعضاء الإثني عشر الجدد في المكتب السياسي لأن ستالين، وكما صرحوا، طالب يانتخابهم ليكونوا البدلاء عن الحاليين .
3. بعد ستة أشهر أي في سبتمبر 1953 رفص المكتب السياسي تخصيص الأموال اللازمة لتنفيذ مندرجات الخطة الخمسية مما دعا مالنكوف إلى الاستقالة كأمين عام الحزب احتجاجاً . وكانت عصابة خروشتشوف المؤتمرة بأمر العسكر قد ادعت أن الخطة الخمسية الخامسة التي قضت بالتحول إلى الصناعات الخفيفة لرفاه الشعب كما قررها المؤتمر العام للحزب في نوفمبر 1952 ستوهن بقدرات الدفاع عن الاتحاد السوفياتي وقد استوجب هذا إلغاء الخطة وتحويل الأموال المكرسة لها إلى القوات المسلحة لتطويرها وتحديث أسلحتها ؛ فكان أن دعيت اللجنة المركزية للحزب للإجتماع &وتقرير ذلك القرار غير الشرعي المخالف للقانون والذي حفر قبر الثورة الاشتراكية .
4. استبشر أعداء الإشتراكية وكتبة البورجوازية الوضيعة بخطاب خروشتشوف السري يهاجم ستالين واعتبروه المعلم الأهم في المؤتمر العشرين للحزب، بينما كان في الحقيقة خطاباً وقحاً طافحاً بالأكاذيب ولم يكن &من أعمال مؤتمر الحزب ولم يكن المكتب السياسي يعلم به ويوافق عليه كما يقتضي النظام بل أكاد أجزم بأن الخطاب كان مفروضا على خروشتشوف نفسه كتبه له العسكر ولذلك لم يجرؤ على عرضه على المكتب السياسي وألقيَ في جلسة خاصة بعد انتهاء المؤتمر وإغلاق محضره .
5. في أواسط يونيو حزيران 1957 اجتمع المكتب السياسي للحزب ليناقش مشروع خروشتشوف في "استصلاح الأراضي البكر والبور" في الاتحاد السوفياتي وانتهى الاجتماع بسحب الثقة من خروشتشوف بأغلبية سبعة من تسعة أعضاء كان يتألف منهم المكتب السياسي آنذاك . ترتب إذاك على خروشتشوف التنحي عن الأمانة العامة للحزب الشيوعي ورئاسة مجلس الوزراء . بدل ذلك طلب إلى صديقه وزير الدفاع المارشال جوكوف مرشح المكتب السياسي القيام بانقلاب عسكري ضد الحزب ؛ فكان أن استدعى المارشال جوكوف اللجنة المركزية للحزب دعوة غير مشروعة فالدعوة تتم من قبل المكتب السياسي فقط، استدعوا بالطائرات الحربية من أقاصي الاتحاد السوفياتي خلال 24 ساعة تحت صيحة تقول أن زمرة مالنكوف في المكتب السياسي تقوم بانقلاب على القيادة الشرعية للحزب ممثلة بخروشتشوف . إذاك قرر المجتمعون على عجل بدعوة غير شرعية، قرروا طرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي للحزب والإبقاء على اثنين فقط هما الأوكراني خروشتشوف والأرمني ميكويان &,
6. في مؤتمر الحزب الحادي والعشرين الاستثنائي 1959 هاجم خروشتشوف إنذار بولغانين في الخامس من نوفمبر 1956 لدول العدوان الثلاثي على مصر، كما إنذار وزير الخارجية شبيلوف في 23 يوليو تموز لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا لدى احتلالهما لبنان والأردن تحضيراً لتصفية الثورة العراقية، بادعاء أن مثل تلك الإنذارات تعرض أمن الاتحاد السوفياتي إلى أخطار هو في غنى عنها ولذلك يتوجب وضع خط فاصل بين الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني التي يتقدمها زعماء مغامرون ـ كان يقصد القائد العالمي عبد الناصر . مثل هذه السياسة الرحيمة بالامبريالية إنما هي انتهاك صارخ للمبدأ اللينيني الذي يقول بالوحدة العضوية للثورة الاشتراكية مع الثورة الوطنية &إذ أن كليهما يعمل على تفكيك الرأسمالية الإمبريالية .
7. في المؤتمر العام للحزب الشيوعي الثاني والعشرون 1961 سقطت آخر ورقة توت تغطي عيب خروشتشوف البورجوازي المعادي للإشتراكية، أو الأحرى نزعها العسكر عن عيبه، فسخر من مبدأ الصراع الطبقي وهو الأساس الذي يقوم عليه كل البناء الماركسي كما هو معروف، وقال بغباء مفرط .. " ما حاجتنا للصراع الطبقي !! هل علينا أن نتقاتل لنسر أعداءنا !!؟ " . وطبعاً تستلزم مثل هذه الأفكار السقيمة المعادية لأسس الماركسية الاستغناء التام عن دولة دكتاتورية البروليتاريا وهو ما بشر به خروشتشوف أعضاء المؤتمر وأنه استبدل دولة دكتاتورية البروليتاريا الستالينية ب "دولة الشعب كله" &الخرشوفية !!
8. العسكر الذين انقلبوا على الحزب لأجل تثبيت خروشتشوف رئيساً للحزب والدولة في يونيو جزيران 1957 هم أنفسهم الذين انقلبوا عليه في أكتوبر 1964 حين كان في الجنوب يتفقد مزارع الذرة عماد مشروعه وشرعيته وإذ بالمكتب السياسي يستدعيه على عجل وعند وصوله مركز القيادة في موسكو وإذ بانتظاره &جنرالات من الجيش وليس أعضاء المكتب السياسي . اعتقله الجنرالات وهددوه بالقتل أو بالاستقالة . بالطبع من سبق له أن باع مبادئه في العام 1953 ليس صعباً عليه أن يبيعها مرة أخرى في العام 1964 .&
أيها المؤرخون والمحللون السياسيون ! كبف لكم أن تقفزوا عن كل هذة الوقائع والحقائق التاريخية كي تعتبروا أن الاشتراكية التي بناها ستالين هي نفس الاشتراكية التي انهارت في العام 1991 !!؟ &كل قادة الحزب الشيوعي السوفييتي الذين خلفوا ستالين أكدوا بكل مناسبة أن اشتراكيتهم ليست هي اشتراكية ستالين، فلماذا تعارصون أنتم أصحابها !؟ ما حجتكم في ذلك ؟؟
&
(يتبع)
&