قبل وصول شرارة ثورة الربيع العربي إلى سوريا كان لي صديق ماهر فنياً، رشيق البنية ومحب للرقص الاستعراضي، ولكنه لم يكن لا قريباً من السلطة يوماً، ولا كان من المنتمين لأي تنظيم سياسي يستطيع تعويمه أو المساهة في تحقيق حلمه، إذ كان حلمه أن يُشكل فرقة استعراضية توازي فرقة كركلا في بيروت، ولكن من دون الالتفات الى قدراته المالية والبشرية واللوجستية، أو دراسة المشروع الضخم بمنطق الواقع والممكن، وغالباً ما كنتُ أقول له: دعك من الأحلام الكبيرة وابدأ بالمنطقي والمعقول والذي تقدر عليه، حتى تتدرج مع الزمن نحو حلمك الشبيه بالمستحيل، ولتخليصه من وهم التشبه بكركلا كنت أؤكد له بأن سوريا كدولة غير قادرة على أن تنشيئ فرقة بمستوى كركلا، فكيف أنت الذي لا تملك شروى نقير ستكون قادراً على ذلك؟.
عموماً فالذي ذكرني بذلك الصديق هو ما صرّح به قائد قوات حماية سنجار سرحد شنكالي لوكالة(كوردبريس)الايرانية للانباء: وقوله بأنهم يريدون تنفيذ مشروع مماثل لما هو موجود في المناطق الكردية بسوريا، أي نظام الكانتونات المعلنة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي.
ويبدو جلياً أن قول سرحد لم يأتِ من فراغ إنما هو مستل بتمامه وكماله من أفكار وكلمات رئيس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان الذي عقب اعتقاله دعا صراحةً إلى نبذ فكرة الدولة الكوردية القومية، والمطالبة بالإدرة الذاتية الديموقراطية أي نظام الكانتونات، المشروع المأخوذ عن أفكار عالم روسي يهودي حسب قول الكاتب الكردي جان كورد، وأوجلان كما هو واضح لا يدعو أقوام المنطقة أي الأتراك والعرب والفرس لحل دولهم القومية، إنما يُطالب الكرد بالتخلي عن الطموحات القومية والوطنية المشروعة لشعب كوردستان.
وبما أن ذاكرتنا لم تثقب بعد لذا نتذكر جيداً بأن هذا الحزب كانت شعاراته ولعدة سنوات مثل المناطيد تطير عالياً في سماء وتصورات أعضائه ومريديه ومخيال عامة الناس، ومنذ ما يزيد عن عشرين سنة كنا بسوريا وكلما التقينا بقيادي أو كادر أو نفر من أنفار حزب العمال الكردستاني كان يبادر بالقول: أن مسعود بارزاني يريد المخترة، أي الجماعة كانوا يعتبرون الحكم الذاتي الذي عمل عليه البارزاني بمثابة المخترة، بينما هم فكانوا يطالبون بما هو أهم وأكبر وأعظم، حيث كانت شعاراتهم الطنانة والرنانة هي تحرير وتوحيد كردستان، انتبهوا جيداً تحرير وتوحيد، هذا الشعار الذي لا يشبه إلّا شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو شعار يكاد يكون خرافي، سريالي بل وتعجيزي مقارنةً بامكانيات الحزب المذكور، وشبيه جداً بأحلام صديقنا الذي كان بوده أن ينشئ فرقة استعراضية ضخمة مثل فرقة الكركلا من لاشيء، وكأن علاء الدين ومصباحه سيكونا عند اللزوم طوع بنانه وبنان قادة حزب العمال الكردستاني. 
ولكن تبقى المفارقة الأهم هي أن صاحب (مشروع المخترة) حسب أقوال أنصار المدرسة الأوجلانية هو متجه الآن نحو الاستقلال، مع أنه ظل واقعياً ولم يزنر خواصر أعضاء حزبه بديناميت اليافطات الضخمة، وناضل ضمن الظروف المتاحة، ولم يزرع الأوهام الكبيرة في عقول أعضاء حزبه أو عموم الناس في الاقليم، ولم يعمل يوماً إلّا وفق إمكانياته وإمكانيات شعبه، ولا رفع شعاراً كبيراً لا يستطيع تحقيق 10% من مضمونه، بينما جماعة الشعارات الهلامية والفضفاضة فتنازلوا بكل سهولة عن طموحات شعبهم مع كل ما ضحوه في سبيل تحقيق مضامين تلك الشعارات، واليوم راحوا يركنون مع أحلامهم العظيمة تلك بجوار مصطبة الادارة الذاتية التي أعلنها رئيس أحد روافد حزب العمال الكردستاني في سوريا أي صالح مسلم، وهي الادارة الشبيه بنظام الحكم في إدارة المقاطعات التي كان معمول بها أثناء الخلافة العثمانية في عموم هذه المنطقة.
إذاً فحزب العمال الكردستاني وبعد تقديمه لعشرات الآلاف من القرابين من أجل التحرير والتوحيد، وبعد تدمير الجيش التركي لآلاف القرى والمدن في المناطق الكردية بتركيا، يبدو أنه تواضع أخيراً في مطالبه وغدا مقتنعاً بفكرة العودة الى نظام الإدارات الذاتية المُحاكية والمماثلة نوعاً ما لتجربة الولايات العثمانية!.