كان من الممكن، بل من اللائق أن نتجاوز عن أخطاء، أو هفواتٍ قليلة، لا بد أنها تقع في خضمِّ أعمال كبيرة، ذوات جوانب متعددة، ومتطلَّبات غير منحصرة في اللغة، فهي تتطلب التأكُّد من صحَّة المعلومات، بعملٍ توثيقيٍّ واسع ومقارن، كما تستدعي متطلبات فنية عديدة، لسنا بصدد التفصيل فيها.

لكن حين يكون الأمر لافتا، بل مؤذيا للأذن، وحتى لآذان المشاهدين من غير المتخصِّصين الذين تستوقفهم تلك الأغلاط الواضحة، فهذا يستدعي لفتة، بل لفتات.

ففي مسلسل " سمرقند"، وفي الحلقة الأولى، وفي مقطع لا يتجاوز عشر دقائق، وقعت الأخطاء الآتية:

"غُلمان وهي: غِلمان، و يُصيحون، وهي: يَصيحون،

وكَساء، وهي: كِساء. وحُجَرات، وهي حُجُرات"

ومن الأخطاء النَّحْوية، في المسلسل نفسِه، وفي المقطع نفسه، قولُ الممثلة أمل بوشوشة:" وجُند الملك يمشِّطون الطرقاتَ المؤديَّة إلى بخارى"، وهي "الطرقاتِ"، وقول ممثل آخر:" لا أعرف أيَّ اسمًا لي قبله" وهي " اسمٍ".

وفي أول الحلقة الأولى، من مسلسل "قضاة عظماء" خطأ حتى في آية قرآنية " ومن قُتِل مظلوما فقد جعلنا لوليِّه سلطانا فلا يسرفْ في القتل" قالها الممثل " فلا يسرفُ في القتل"، وبعدها أخطاء من قبيل ما ورد على لسان شخصية الطبيب اليهودي " يَغدقون" وهي طبعا، "يُغدقون"، وقوله " الدنيا سهلة على عالمٌ فقيهٌ مثلِك" "(عالمٌ)! بعد حرف جر! وبعدها "فقيهٌ" أبقاها مرفوعة؛ خطأ جرَّ خطأ، ولكن حين وصل إلى " مثلِك" قالها على الصواب، كما كُتبت " مثلِك" بالجر.!

وعلى لسان البطل في الحلقة الأولى، وهو القاضي أبو بكر الأنصاري (قاضي المارسِتان) قال عن صُرَّة نقودٍ وجدَها:" في الإسلام تُسمَّى هذه لَقْطَة" بفتح اللام وتسكين القاف، وكرَّرها في موضعين، ثم تابعه عليها الطبيب اليهودي -وهي كما يُعلَم -:" لُقَطة" بضمِّ اللام وفتح القاف، أو " لُقْطة، بضمّ اللام وتسكين القاف، على رأيٍ أضعف، وهي ما التقطه الإنسان من مال ضائع، وكذلك أخطأ أحمد ماهر الذي أدَّى دور القاضي في قوله "فرضيتُ أن أمسّ مرضاةِ ربِّي" وهي مرضاةَ" وأحمد ماهر، ممثل معروف بالأدوار التاريخية، ولغته إلى حدٍّ بعيد سليمة، لكن مثل هذه الهفوة في ضبط كلمة "لقطة" قد تشكِّك بصدقيَّة الدور؛ كونه قاضيا لا بد أن يكون على دراية أكيدة بمثل هذه المصطلحات.

هذه بعض الأمثلة، ولا أريد أن أطيل، حتى لا أرهق القارئ في التفصيلات النحوية واللغوية، ولكن كان لا بد من بعضها؛ لتتضح الظاهرة وحجمها.

مع أني شاهدت لقاءً مع مخرج مسلسل " قضاة عظماء"، عبد القادر الأطرش، حرص فيها، من ضمن حرص، على اللغة والصحَّة اللغوية التي لا تقتصر على السلامة النحْوية والحركات الإعرابية، بحسب قوله، ولكنه أبدى حرصا أيضا على مخارج الحروف، وبالطبع لا يليق بمسلسل تاريخي أن يُنطَق حوارُه بلهجة معاصرة: مصرية أو سورية، أو غيرهما؛ فهذا يخرم واقعيَّته، ويُبعِد المُشاهِد عن التفاعل التام، مع الوقائع التاريخية وعصرها، علما أن هذه اللهجات ظهرت في المسلسل على ألسُن بعض الممثلين، واضحة جليَّة.

وفي ذلك اللقاء لفت المخرج إلى مسألة مهمة يتقاطع فيها الأداءُ الجيِّد للممثل مع اللغة، حين ذكر بأن ضعف الممثل في اللغة الفصيحة، من شأنه أن يؤثر، أو ينتقص من أدائه، حين يخسر بعضَ جهده في تطلُّب اللغة وإتقانها؛ فينشغل، وقد يفقد حرارة الأداء، وهذا الكلام يكشف عن ضرورة إتقان الممثل للغة، وأنَّ ذلك ليس لأجل اللغة فقط، بل لأجل جودة العمل الفني، وتصديق الدور والممثل.

ما نأمل به، وفي المسلسلات التاريخية أكثر، أنْ تكون اللغة من ضمن ما يُحرَص على إجادته، لا من حيث كتابة النص كتابةً لغوية سليمة، (فقد يكون ذلك) ثم إدارة الظهر بعد ذلك عن الأداء العملي، بل لا بد من مراجعة المشهد لغويا بعد أدائه، لتصويب الأغلاط، قدر الإمكان، وبالطبع نحن لا نتحدث عن حالة مثاليَّة، فالأمر ممكن، ولو أنه سيتطلَّب كُلَفا إضافية، وهو واقع ومنجَز في مسلسلات تاريخية رصينة، قلَّما نجد فيها أخطاء، وإذا وجدت فهي محتملة لقلَّتها، كــ"صقر قريش"، و"الزير سالم"، مثلا، مع أنه لا يخلو من عثرات وهفوات، إلا أنها لا تفقده طابعه العام، وهو السلامة والدقة اللغوية في الأداء.

وكمُشاهِد، أولا، حين لا يجذبك الأداء الجميل والمدهش أحيانا، أو لا يقدر على صرْفِك، عن ملاحظة خطأ هنا، أو هفوة هناك، فإن ذلك قد يدلُّ على أن تلك الهفوات قد كثرت؛ حتى صرَفَتْك عن متابعة مسلسك، بل شوَّهت عليك روعة المَشاهد، والمشاهدة.

&