لا زلت اتذكر جيدا انه في شهر يوليو من عام 2005م، اعلن الرئيس المخلوع "علي عبد الله صالح" انه لن يترشح لولاية جديدة في الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في شهر سبتمبر 2006م، ولكنه للأسف الشديد عدل عن هذا القرار لأنه في الأصل لم يكن جادا في ذلك، او ربما انه كان يريد جس نبض الشارع اليمني ومنافسوه السياسيين. وقبل انتفاضات الربيع العربي في كل من تونس ومصر، كان نواب البرلمان اليمني الموالين له يعملون على تعديل الدستور لكي يتمكن "صالح" من الترشح لفترات رئاسية بلا قيود زمنية.

بعد احداث تونس ومصر بفترة وجيزة، اعلن "صالح" الذي كان من المفروض ان تنتهي ولايته في منتصف شهر سبتمبر من عام 2013م انه: "لا تمديد ولا توريث ولا تصفير للعداد كما جاء في الإسطوانه المشروخة بأن الرئيس يريد ان يورث ابنه ولا يريد ان يصفر العداد، هذا غير وارد في برنامجي على الاطلاق، ولن اتراجع مهما كانت الظروف ولن اكون معاندا، بل من العيب ان ندمر ما بنيناه". ما اعلنه يناقض تماما موقفه منذ بدء انتفاضة الشعب اليمني والى يومنا هذا، فما يحدث في اليمن من اقتتال بين مكونات شعبه وتدمير للبنى التحتية، كل ذلك بسبب تعنته وعناده واصراره في البقاء على رأس السلطة او تسليمها لأقاربه واعوانه حتى يبقى هو المحرك الرئيس من وراء الستار.&

وصل "صالح" الى رأس السلطة في اليمن عام 1978م بعد مقتل الرئيس "احمد الغشمي" في ظروف غامضة بفترة قصيرة، وكان للمؤسسة العسكرية دور كبير في إيصاله الى الحكم، حيث تم اختياره في مقر القيادة العامة للجيش قبل ترشيحه وانتخابه. اول قرار اتخذه بعد حوالي ثلاثة اشهر من توليه السلطة، اي في العاشر من شهر اغسطس 1978م كان إعدام ثلاثين شخصا إتهمهم بمحاولة الانقلاب على حكمه.

لم يكن "صالح" يثق بالكثير من قطاعات الجيش، لذلك إعتمد في بداية حكمه على عدد محدود من الوحدات العسكرية التي يقودها اقرباؤه، وبعد ذلك اتجه لبناء وحدة عسكرية جديدة هي قوات "الحرس الجمهوري" وضعها في البداية تحت قيادة اخيه غير الشقيق "علي صالح الأحمر". وكانت مهمة هذه القوات في بداية تأسيسها هي تأمين دار الرئاسة وتنقلات الرئيس، ثم جرى لاحقا توسيع وتطوير تلك القوات حتى اصبحت جيشا قائما بذاته لتشمل كافة مناطق اليمن، كما انشئت وحدات جديدة تابعة للحرس الجمهوري أطلق عليها الحرس الخاص والقوات الخاصة، وجمعت كلها تحت قيادة واحدة اسند قيادتها فيما بعد الى إبنه "احمد".

عرف عن "صالح" انه رجل المتناقضات يتحالف مع بعض القوى السياسية والدينية والقبائل اليمنية ثم ينقلب عليهم ويتحالف مع منافسيهم، كما يمارس نفس السياسة مع دول الجوار العربي. هو صاحب القول المشهور "إن الحكم في اليمن مثل الرقص على رؤوس الثعابين"، أي ان حكم اليمن لا يتم إلا بطرق ملتوية وبالتلاعب والمراوغة.

تحالف مع "علي سالم البيض" من الشطر الجنوبي ثم تخلص منه ليستفرد بحكم اليمن بعد ان فرض الوحدة على الجنوبيين بقوة السلاح. تغاضى عن نشاط القاعدة في اليمن ثم تظاهر بمحاربتها لتأمين المساعدات المالية والعسكرية التي كان يحصل عليها من الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية. خاض ستة حروب مع الحوثيين وقعت بين عام 2002م الى عام 2009م عندما كان حليفا لبعض الدول الاقليمية، ثم تحالف معهم بعد خلعه من السلطة ومكنهم من السيطرة على العاصمة صنعاء مستغلا سيطرته على المؤتمر الشعبي وعناصر الحرس الجمهوري والقوات الموالية له في الجيش اليمني، لينتقم بذلك من الشعب اليمني الذي ثار عليه ومن حكومات دول الخليج العربي التي مارست عليه الضغوط للتنحي. "صالح" طبق حرفيا مقولة "مكيافيلي" الغاية تبرر الوسيلة.&

إستبق "صالح" فرض عقوبات عليه من قبل الحكومة اليمنية ومجلس الأمن الدولي والدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية لاسترجاع الأموال المنهوبة خلال فترة حكمه التي تقدر بحوالي 60 مليار دولار امريكي، فقام بنقل الأموال والاستثمارات الى الخارج بمساعدة بعض دول الجوار التي سهلت عليه نقل ملكية استثماراته باسماء اولاده ومقربين منه لتفادي الحجز عليها او مصادرتها.

يقول الصحفي الألماني "راينر هرمان": "إن "صالح" عرف منذ توليه حكم اليمن عام 1978م كيف يوازن بين الفاعلين السياسيين في بلاده، ففي فبراير 2012م بدا وكأن العسكري المحترف اختفى من الساحة السياسية، لكنه بقي يحرك الخيوط من وراء الكواليس، اما اليوم فلم يعد شيئ يتحرك في اليمن بدونه".

اما الباحث السياسي اليمني "حمزة الكمالي" فيقول: "إن بقاء "صالح" في المشهد السياسي اليمني هو سبب المشاكل والأزمات لأنه يمتلك مفاتيح تدمير اليمن بسبب نفوذه وارتباطه بالجيش اليمني الذي زرع على رأسه ورأس المؤسسات الأمنية افراد عائلته. لم يكن هناك جيش وطني يمني أيام "صالح"، كان هناك جيش مبني على المحسوبية والحسابات القبلية والعشائرية، لذلك الآن العلاقة بين "صالح" و "الحوثيين" كالتوأم السيامي الذي من المستحيل ان يعيش طرف منه دون الآخر".&

آخر الكلام: لا اعرف رئيس دولة عربي تخلى عن السلطة طواعية وبإرادته الحرة إلا السيد "عبد الرحمن سوار الذهب" الرئيس السوداني الذي وفا بوعده وسلم السلطة لحكومة منتخبة بعد عام واحد، اما الباقون فيعتقدون ان الحكم هبة او تكليف شرعي من الله لا يجوز التنازل عنه لأي سبب كان، وهم جميعا متمسكون بالمقولة الشهيرة: "والله لا اخلع قميصا قمصنيه الله".