&مصيبة العراق في القضاء أكبر منها في حكومته وبرلمانه وساسته فلو كان هناك قضاء حقيقي لما وصل البلد الى ما وصل له حاليا، ولما أستمر تحكم أحزاب هي الى منهج العصابات أقرب، بمصير البلاد الذي أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات وباتت فيه حفلات الدم اليومية وعمليات الإبادة الجماعية شيئا طبيعيا و لاتثير الانتباه ولا الأهتمام.

مايسمى بـ"السلطة القضائية " هي المسؤولة عن الدمار والخراب الذي وصل له العراق أكثر من الطبقة السياسية، فهذه السلطة التي شكلها الاميركيون بعد إحتلالهم عام 2003، وأعيد ترتيبها مرة أخرى عام 2005 أمتلكت فرصتها الكاملة لتكون مستقلة فهي كانت تحت حماية الأمم المتحدة والاميركيين حتى عام 2011 لكنها ومن خلال رئيسها القاضي مدحت المحمود اختارت ان تكون ذيلاً وتابعة للسلطة التنفيذية والأحزاب المتنفذة وان تشاركهم الفساد والجريمة.

الحديث عن فساد مالي في بلد يُسبى فيه شعبه وتغتصب نساؤه ويعيش لاجئا ومشردا في أرضه ووطنه، قد يعتبره البعض نوعا من الرفاهية وربما الانفصال عن الواقع، والتفكير ان المنظومة القضائية التي ينخرها الفساد والمحاصصة، يمكنها محاسبة رؤوس الجريمة هي السذاجة بعينها أو محاولة خداع النفس بالوهم والأمل الكاذب.

تجربتي مع القضاء طويلة وقديمة فهي تعود الى عام 2006 عندما بدأت أطرق بابه اعتراضاً على بعض المواد الدستورية الغامضة والمطاطة والتي يمكن تفسيرها بحسب مزاج السلطة التنفيذية، وبعض المواد التي تعيد العمل بالقوانين الموروثة من الحقبة السابقة أو التي تقيد حرية التعبير. وبعدها محاولاتي لإلغاء مواد جرائم النشر (81و82و83و84 ) من قانون العقوبات العراقي وهي تخالف الدستور في المادتين 38 و46، كما انها تخالف اي اسس او معايير لاي نظام من المفترض انه يتحول نحو الديمقراطية.&

ومن ثم الطعن والاعتراض على مايسمى بـ "قانون حقوق الصحفيين " الذي أصدره البرلمان العراقي عام 2011 بصفقة سياسية شملت حزمة من القوانين التي تخدم مصالح أحزاب السلطة ولتقييد حرية التعبير والسيطرة على وسائل الإعلام ما يمكنها من إعادة انتاج إعلام السلطة مرة أخرى. ورغم ان "قانون حقوق الصحفيين " يخالف مخالفة واضحة وصريحة الدستور العراقي في المواد "13 و14 و38 و46" منه، إلا ان المحكمة الإتحادية نفذت توجيهات السلطة التنفيذية وتحديدا رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في رد دعوى الطعن به أواخر عام 2012، وانا وأسرتي كان نصيبنا المطاردة ومحاولات عديدة للإغتيال من قبل الميليشيات التي يديرها مكتب المالكي نفسه.

طرقت باب القضاء وتحديدا المحكمة الإتحادية (الدستورية ) ليس لجهلٍ بوضع القضاء و لا بشخص رئيس المحكمة الإتحادية مدحت المحمود، بل للإثبات للعالم ومنظماته الإنسانية بانه لايوجد قضاءً مستقلاً في العراق، كما اني كنت ومازلت أعمل من اجل اكمال ملف قانوني وتقديمه الى المحاكم الدولية وهذه المحاكم تشترط بمن يرفع دعوى امامها ان يكون قد استنفد الجهد الوطني من خلال اللجوء الى القضاء في بلده أولاً.

تعودنا من قضاء مدحت المحمود ان لاتكون قراراته مستندة الى القانون والدستور بل الى حسابات الربح والخسارة ومحاباة الطرف الأقوى في القضية، هكذا فعل بعد إنتخابات عام 2010 في تفسير معنى "الكتلة الاكبر " ليمكن المالكي من الحصول على ولاية ثانية على الرغم من فوز كتلة اياد علاوي باغلبية المقاعد البرلمانية. وعلى الرغم من ان الدستور وقتها لم يكمل عامه الخامس بعد، وجميع من شارك في كتابته مازالوا على قيد الحياة وكان يمكن استدعاءهم وسؤالهم عن قصدهم وتفسيرهم لمعنى "الكتلة الأكبر"، لكن المحمود اختار ان يفسرها حسب مايتوافق ومصلحة المالكي. و تفسيرات المحمود الكيفية للدستور التي نجح من خلالها في منح المالكي ولاية ثانية كلفت العراق غاليا تمثلت في سقوط نصف البلاد بيد داعش ومقتل الآلاف من الناس وتشريد الملايين داخل وخارج العراق، ورغم ذلك لم يحاسب المالكي ولا اي من اركان حكمه ومحازبيه.

ويبرر المحمود وقضاؤه عدم محاسبته لاي طرف بقضية سقوط الموصل والمحافظات الأخرى بان الدستور جعل مثل هذه القضايا من اختصاص الادعاء العام والمحاكم العسكرية،وعلى فرض ان هذا صحيح، فلماذا السكوت عن قضايا الفساد لوزراء وزعماء احزاب تقدر بمليارات الدولارات؟، واين الادعاء العام والقضاء المدني من الإتهامات العلنية من قبل نواب ومسؤولين سابقين وحاليين لرئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي بسرقة نحو 400 مليار دولار خلال فترتي حكمه مابين (2006-2014)ولماذا لم تحرك ساكنا؟؟.

ولعل أخطر مادمر المؤسسة القضائية في العراق هو قيام الحكومة بإنتاج جيل جديد من القضاة من خلال إصدار تشريعات تسمح لكل من مارس عمل المحاماة او الوظيفة القانونية لثلاث سنوات بعد التخرج بان يصبح قاضيا شرط ان لايكون عمره تجاوز 40 عاما، وبالتالي فان الحكومة حققت نقطتين هما: تعيين منتسبي الاحزاب من حديثي السن في السلطة القضائية و ايصال اناس لم يفهموا أويهضموا القانون بشكل جيد الى منصة القضاء، وهذا ما يسهل عليها التحكم بهم وأستغلالهم. كما قامت الحكومة لاسيما نوري المالكي بالاحتفاظ بملفات تدين بعض القضاة الكبار اما بالانتماء الى حزب البعث المنحل او بالتورط في رشاوى وتهديدهم بتلك الملفات ما جعلهم يخضعون الى الحكومة بشكل كامل.

المؤسسة القضائية العراقية حاليا هي خاضعة للمحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية، والمناصب القضائية العليا موزعة بين الاحزاب المتنفذة بطريقة تجعل اي حكم قضائي خاضع للتسويات السياسية وليس للمواد القانونية والدستورية، وبالتالي فإن القضاء العراقي لايصلح أبداً ان يكون حكماً لانه فاقد للاستقلالية تماما وهو لعبة تحركها أحزاب وعمائم السلطة كما تشاء ووفق ما تقتضي مصالحها. وأحزاب السلطة حولت القضاء الى أداة لإصدار احكام البراءة وشهادات حسن السلوك والنزاهة لجميع الفاسدين والمجرمين من محازبيها، كما حولته الى سيف مسلّط على رقاب معارضيها ومن يحاول ان يكشف فسادها أو يختلف معها،من خلال السرعة في تلفيق القضايا و أصدار أحكام الضبط والحضور، و اصدار احكام الإدانة الحضورية أو الغيابية لايهم بالنسبة لها لان ما تريده هو تسقيط معارضيها من خلال جعلهم ملاحقين ومدانين من قبل القضاء للطعن بشرفهم ومصداقيتهم وإيهام العالم بانها تحتكم في خصوماتها الى القضاء وتحترم قراراته، في طريقة مشابهة لما كان يفعله النظام السابق لكن بشكل أشد خسة ووضاعة.

&

[email protected]