" لعْقةٌ صغيرةٌ من مرارات العراق الجـمّة "

بعد انحلال ماسُـمّيت جزافا الجبهة الوطنية في العراق بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي والتي تأسست في عام /1973 بدفعٍ وإلحاح من لدن رئيس الاتحاد السوفياتي ألكسي كوسيجن وقتذاك صاحبتْـها اشتراطات بعثية قاسية لكنها قُبلتْ رغم أنف الكثير من الشيوعيين الذين أبدوا عدم رضاهم على هذا الاتفاق المتعجّل حتى سُميت تندّرا واستخفافا واستهزاءً باسم " الݘبحة " الوطنية وهذه المفردة باللهجة العراقية تعني ( الكبوة ) إذ بدأت المطاردات والاعتقالات العشوائية للشيوعيين وأنصارهم بدءاً من منتصف عام / 1978 ودون ان يعلن ايّ طرف عن إلغائها رسميا&

حينها ضاق بي المقام في بلادي مثل حال بقية صحبي بعد أن أطيح بالجبهة حيث كانت القوات الأمنية التابعة لسلطة البعث الحاكمة وعناصر البعث ورفاقهم تعتقل ايّ شيوعي صغيرا كان ام كبيرا من الكوادر والاصدقاء والمتعاطفين دون اي اتهام او جنحة سوى انه منتمٍ ، ولم يسلم أيّ فرد من هؤلاء من الملاحقة وتـتبّع أثرهم ، والسعيد السعيد من انسلّ هاربا الى شمال العراق للانضمام مع " البيشمركة " مقاتلا في صفوف المعارضة بشمال العراق وهناك من يمّم وجهه شطر سوريا ولبنان في عمليات هرب غاية في الارهاق اذ كانوا يقطعون هذه المسافات وعبور الحدود مشيا على الاقدام&

انا عن نفسي فقد كنت أناور هنا وهناك داخل بلدي ولم أشأ الاغتراب مهما سيحصل ، تراني مرة عند صديق في الريف مختفيا ومرة اخرى أعود الى مدينتي في النجف لأقيم عند قريب لي ردحا من الزمن وحالما اشعر بثقل ضيافتي على احد ؛ ألملم حاجياتي وحقيبتي لاستقر في مكان اخر بعيدا عن اعين الرقباء والمتلصصين&

كان الجميع يخاف من إيواء المطلوبين للسلطة ووصل الامر ببعض الناس ان تطرد حتى أفراد أسرتهم ممن يشك في انتمائه وكونه مطلوبا للسلطة ، وبين هذا التشتت وذلك الخوف العارم من العيون المتجسسة اضطرني الظرف القاسي وقذفَـني حظي ان انام في غرفة على السطوح في اقدم واعرق حي ببغداد القديمة ، هذا الحيّ الذي يعرفه العراقيون والبغداديون خاصة يسمى " الحيدرخانة " العتيق وكل فروعه وأزقته تتفرع الى شارع الرشيد وساحة الميدان وسط بغداد القديمة&

تلك الغرفة التي أهجس انها مصممة اساسا قِـنّاً للطيور الداجنة ثم تم توسعتها وإعلاء سقفها ؛ سكنتُـها قرابة الشهرين وكنت ارتقيها بواسطة سُـلّـمٍ خشبي مُـتّكئ على الجدار عدة مرات في اليوم لأنها تخلو من حمّام أو مرفق صحي حتى اضطررت الى حمل وعاء كبير نسميه " السطل " اثناء صعودي ونزولي لأملأه بالماء من المقهى الصغيرة تحت غرفتي&

هذه المقهى كان معظم زبائنها من العميان وجلّهم اصحاب مواهب في العزف على الآلات الموسيقية وقدرات لايستهان بها في الشعر والتأليف ويمتلكون قدرة محببة في مخيالهم الواسع والعريض وتقع المقهى في ساحة الميدان غير بعيدة عن مخبئي اذ كانت ملاذي بعد الغروب وموئل إناء الماء الذي أحمله الى مأواي&

أحد هؤلاء العميان ومازلت اتذكر اسمه " عبد الصمد " ولايغيب شكله وهيأته عن ذهني ما حييت ؛ له من الحدس مايثير العجب ومن السليقة الشعرية مايدهش بفطرته المطبوعة في نفسه حيث كان يتقن الإيقاع بأذنه الموسيقية ولا يفوته الزحاف في الوزن مهما كان خفيفا ويصطاد الخلل في الوزن بلمحة عجيبة قبل وصول الشعر الى الأسماع مع انه لم يدرس عَروض الشعر العربي وأوزانه الخليلية لكنه بارع في رصد النشاز والخلل في الوزن والإرباك في الايقاع وفي موسيقاه بأسرع من سرعة البرق اضافة الى قدرته وملَكَـتِه في العزف على النايّ ؛ ومن المحال ان تسمعه دون ان تهيج في دواخلك بواعث الشجى والأسى وتلتحم بأنفاسهِ وزفيره الذي يمرّ من قصبة الناي لتلقاه أنامله ذات الحساسية المفرطة وهي تتراقص على ثقوب القصبة لتبعث صوتا غاية في السحر&

كان يدسّ نايَه الصغير في جيبه ويأتيني أول الليل وحالما يتناقص روّاد المقهى ننزوي في ركن قصيّ قبيل اغلاقها لنستمتع معا الى عـزفِـه المؤثر لكن من بقي من رواد المقهى سرعان ما يتحلقون حوله انجذابا حالما يسمعون نفثاته&

من نوادره ايضا انه كان يدندن في صدر بيت شعري يبتكره واحيانا يتعثر ويعجز عن اكمال شطره الثاني بالصيغة التي يراها محببة فيها مسحة من الابداع ، وحالما يتحسس مجيئي الى المقهى نازلا من السّلّم يناديني طالبا مني اكمال العجز فأكمله له بالشكل الذي يرضيه ويعود مجددا الى البيت الثاني ويرجوني ان اكمل البيت اللاحق ؛ ولا ادري كيف يدرك جليسي المحبب " عبد الصمد " الاعمى وجودي قربه ، ويبدو انه يتحسس وقع خطواتي المرتبكة وانا انزل الى الارض من الدرج المخيف بحذر شديد غير مألوف لدى الاخرين لقلة مهارتي في استخدامه صعودا ونزولا خاصة اذا كنت احمل متاعا أو ماءً&

وخلال إقامتي في هذا " القنّ " المسمّى جزافا غرفة قرابة الشهرين وقبل مغادرتي بغداد مرغما هاربا من بلادي التي أحبّها بجنون رغم الواقع المزري جدا الذي عشته شريداً دائم التنقّل وحقّ لي ان أصفه حبّا من طرف واحد كما يقول العشاق ، ولم تنفع معي كل المغريات والضغوط والتوسّلات على مغادرة العراق لكن الامر وصل الى حدّ عدم الاحتمال فإما السجن ويلحقه الاعدام او الاغتراب ؛ فـقبيل مغادرتي كتبنا انا وهو قصيدتين من قريض الشطر والعجز ونحن نقتنص الاجواء في اول الليل التي نحدسها آمنة في المقهى وننزوي في ركن ناءٍ ونكمل مابدأنا حتى انهينا قصيدتين مشتركتين وقتذاك&

ذكرتُ تلك الايام السود وقد مررتُ مؤخرا بالمكان الذي استقررت فيه قبلا وأنا أجرجر جسدي عنوةً حينما اشعر ببعض قوة تحلّ في كياني فأزور شارع المتنبي وألتقي ببعض أصدقائي ؛ وقلت في نفسي لماذا لاأمرّ على المقهى وأدخلها لعلها مازالت قائمة في مكانها فالأمر لايكلفني مشقة لاسيما ان الطريق الى المتنبي يمرّ عبرها ؛ لذا عزمت على زيارتها وفوجئت ان المقهى لازالت على حالها مع بعض التغييرات الطفيفة في ديكورها الحديث ، رأيت القسم الكبير من روّادها العميان يـقـتعـدون تختها الخشبيّ القديم وبعض كراسيها البلاستيك الجديدة التي تم تأثيـثها لها&

وزادت رغبتي أكثر بالسؤال عن جليسي السبعيني الشاعر والعازف البصير سريرةً " عبد الصمد " ولكن لمن أوجّه سؤالي فكل من يعمل في المقهى هم من السعاة والنادلين الشباب وجالت عيوني في الرواد والزبائن لعلي أجد أحدا من كبار السن يسعفونني من وعكة سؤالي وإرضاء رغبتي العارمة في معرفة مصير هذا الاعمى العالق ذكره في مخيلتي&

دنوت من احدهم ملقيا التحية عليه وسألته بلطفٍ وبالتفصيل والشرح المملّ لكنه لم يقنع فضولي حتى مررت على اربعة من الجالسين سائلا دون ان اعثر على ايّ اثر&

عدت ادراجي يائسا ميمما وجهي صوب شارع المتنبي لأشارك أصدقائي جلساتهم عسى ان انسى هذا التخاطر الذي أربكني وأهاجني وأقضّ مضجعي هذا اليوم.&

هذه بعض ابيات القصيدة الاولى التي أتذكرها الى الان عندما كتبناها معاً وقد يكون سبب تذّكري إياها ما نعانيه الان من وضع مماثل وفق منظور القول المشهور ( ما أشبه الليلة بالبارحة ) ، اما القصيدة الثانية فقد غمرها وعث النسيان وضاعت في مسالك شيخوختي ، وقد أمسك بعض أذيالها يوما ما متشبثا بمرور الصدفة وحنوّها عليَّ كما حصل لي في القصيدة الاولى :

بــغــدادُ دمـعـة أيـامـي ولـوعـتُــهــا

وفـي ثَـراها أرى الحـلاّج قد صُلبــا

ما ضرّني جَـمرةٌ تجْثـو على جسدي

بل شـاقَـني صحبةٌ صاروا لها لَـهَبـا

دمـوعُ يعـقوبَ تجْـري في مَـرابعـنا

دماءُ يـوسـفَ ما كـانـت دمـاً كَـذبــا

يا خمرة الرَّوْح والريحان تُسكرنـي

فـأنهـلُ الـزِّقَّ حـتى ألْـعَـقَ الـحـبَـبا

تـشدو المقـاماتُ فـي أفْــيائِـنا نغَما

كـرْداً ، بَـياتاً ، نَـهاونْدا، وثم صَبـا

أكاد أربأُ من قــولٍ حــوى سَـفَــهـا

يقضي بأنّ الـدنى تأتي لمن غـلَــبـا

وفـي الـسماواتِ أذكــارٌ وأدعِــيـةٌ

تـقول لي : إنـما الـدنيا لِـمن وهَـبـا

تـجـاوزتْـنـا بَـهـيْــمٌ كـان جُـلُهـمُـو

لا يعرفُ الشعْـرَ مجْـتَـثّاً ولاخَبَـبـا

لـكنـما الـسعْـدُ لا يـبـقى إلـى أمَــدٍ

فـفي الحنايا بـكاءٌ لامـسَ الطرَبــا

وفـي الـجـوانِـحِ قـلـبٌ هـدّهُ ظـمـأٌ

لا يرتضي الماء إلاّ زمْزماً عـذِبا

وفي المنافي حبـيـبٌ أنَّ مُـبـتعـداً

وترقص الروحُ جذلى كلما قـربا

كـأنّــنـا فـي رحـيــلٍ دائــمٍ أبــدا

يبقى فـتانا يعـيش العمْـر مغتربا

لا مستـقر لـه في أرضهِ وطَـرا

يضيع كالتائهِ الولهان مضطربا

يا لَلأعاصير تعرونا وتُـرعـدنا

وتـأخـذ الصبرَ مِـنا غِـيلةً نهَبــا

تؤرجح الريحُ أحلامي وتحملني

إلى الفـتـوّةِ أُملي سُـوحَـها لعِـبـا

وتـستبــيحُ هـزيعَ العـمْرِ، آخِـرَهُ

تذيقني الشهْدَ والأطيابَ والرطَبا

لكنها الريـحُ مهْـوى حـبِّها قـلِـقٌ

ترى رضاءً وحيناً تلمحُ الغضبا

&

جواد غلوم

[email protected]