يوم 3 ايلول الجاري، أقرت "الهيئة العليا للمفاوضات" لقوى الثورة والمعارضة السورية، وثيقة "الإطار التنفيذي للعملية السياسية"، قدمتها لاجتماع مجموعة "أصدقاء سورية" في لندن، وللمبعوث الدولي الى سورية ( استيفان دي مستورا). في الوقت الذي زعم رئيس وفد الهيئة المفاوض مع النظام في جنيف، العميد (أسعد الزعبي)، بأن الوثيقة وُضعت بإجماع واتفاق جميع أعضاء الهيئة وهي تعبر عن تطلعات وآمال السوريين بجميع مكوناتهم، أثارت الوثيقة غضب المعارضات (الآشورية، الكردية، التركمانية). بعض هذه المعارضات هدد بالانسحاب من الهيئة، احتجاجاً على انحياز الوثيقة للمكون العربي الاسلامي وتجاهلها لحقوق المكونات غير العربية وغير الاسلامية. كما أثارت الوثيقة استياء وسخط شديدين في مختلف الأوساط، الآشورية والكردية والتركمانية. لأن هذه الوثيقة، و بما تضمنته من مبادئ اساسية حول شكل وهوية ونظام الدولة السورية الجديدة ما بعد الأسد، تكرس من جديد هيمنة وسطوة الغالبية العربية الاسلامية على الأقليات والمكونات السورية غير العربية وغير الاسلامية، وتعيد انتاج الدولة الشمولية بنظام عربي/اسلامي، وهذا يعد انقلاباً على الثورة السورية وتخلياً عن الأهداف التي قامت من أجلها.&

المنظمة الآثورية الديمقراطية، فصيل آشوري، اصدر مكتبها السياسي مذكرة احتجاج، على تجاهل الوثيقة للوجود الآشوري( سرياني/كلداني)، الذي يشكل العمق التاريخي والحضاري لسورية التاريخية، وهي عن هذا الشعب الأصيل أخذت اسمها وهويتها السورية. والمنظمة أدانت إغفال الوثيقة للوجود المسيحي المتجذر في الارض السورية. فهي (المنظمة الآثورية) ترى في وثيقة الهيئة، إجحافاً وموقفاً عنصرياً بحق الآشوريين وعموم المسيحيين السوريين. الفصيل الآشوري، اعتبر سعي الهيئة لاختزال الهوية السورية بالعروبة والاسلام، رؤية قاصرة، تنطوي على إقصاء وتهميش هوية بقية المكونات السورية الغير عربية والغير اسلامية. وقد حملت المنظمة الآشورية مسؤولية وضع هكذا وثيقة منحازة غير متوازنة لـ" الهيئة العليا للمفاوضات، وللقوى المنضوية في إطارها، وخاصة الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق والمجلس الوطني الكردي وباقي الشخصيات الوطنية". المنظمة طالبت في مذكرتها تعديل الوثيقة " بما يضمن الإقرار دستوريا بالحقوق القومية للآشوريين(سرياناً وكلدناً) وكافة المكونات الأخرى، اسوة بالعرب والكرد، وذلك ضمن إطار وحدة سوريا أرضا وشعبا." جدير بالذكر، رغم أن المنظمة الآشورية هي من مؤسسي المجلس الوطني المعارض ومن ثم الاتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، تم إقصائها عن الهيئة العليا للمفاوضات مع النظام، التي انبثقت عن مؤتمر الرياض للمعارضات السورية في ديسمبر 2015.

رغم أن الوثيقة خصصت فقرة للقضية الكردية واعتبرتها " قضية وطنية سورية، ودعت للعمل على ضمان حقوق الكرد،القومية واللغوية والثقافية، في الدستور " لم ترضي ولم تلبي رغبات الشارع الكردي في سوريا،الذي يتطلع الى استنساخ تجربة أشقائه أكراد العراق. فقد احتجت وبشدة معظم القوى والأحزاب والمنظمات الكردية ـ تلك المنضوية والغير المنضوية في الاتلاف والهيئة العليا للمفاوضات - على وثيقة الهيئة. وطالبت بانسحاب (المجلس الوطني الكردي) من الاتلاف ومن الهيئة، ما لم تصحح الهيئة موقفها وتأخذ بـ"الورقة الكردية" فيما يخص حقوق الأكراد وقضيتهم، وتبني "خيار الفدرالية " لسوريا الجديدة. الخيار الذي أجمعت عليه المعارضات الكردية، كحل مناسب لقضية أكراد سورية. الامانة العمامة لـ(المجلس الوطني الكردي) اصدرت بياناً شديد اللهجة، هاجمت فيه الهيئة واحتجت على ما أقرته وثيقتها بـ" ان الدولة السورية جزء من الوطن العربي" وعلى طرحها "اللامركزية الادارية". وقد اعتبر المجلس الوطني الكردي نفسه "غير ملزم بهذه الوثيقة ما لم يتم تعديلها ويأخذ بالورقة الكردية المقدمة للهيئة". (الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي)، الذي انسحب قبل اشهر من الاتلاف الوطني المعارض، استخلص من وثيقة " الاطار التنفيذي للعملية السياسية" التي اقرتها الهيئة العليا للمفاوضات " بأن الذهنية الشوفينية هي التي لا تزال تسير أعضاء الهيئة، وأن اعتبار سوريا جزء من الوطن العربي وذات غالبية اسلامية، تأكيد على استنساخ تجربة البعث وبشكل ممسوخ ". أما (حزب الحركة الوطنية التركمانية السورية) استنكر، ما وصفها بــ" سياسات الإنكار" من قبل مؤسسات المعارضة السورية بحق المكون التركماني السوري. ودعا الهيئة العليا للمفاوضات لـ"استدراك الخطأ" وإضافة بند خاص يؤكد على "الضمان الدستوري لحقوق التركمان السوريين، السياسية والثقافية والاقتصادية"، كشرط لقبولها.

&تلاقي المعارضات غير العربية على رفض وثيقة الهيئة، وهي " وثيقة عربية اسلامية" بامتياز، لا يعني أبداً بان هذه الأحزاب، متفقة على رؤية مشتركة لحل معضلة الأقليات في البلاد وعلى شكل الدولة السورية الجديدة ما بعد الأسد. فكل حزب انتقد ورفض الوثيقة من زاويته العرقية الخاصة وانطلاقاً من مصالح وحقوق المكون الذي يمثله. كما يقول المثل الشعبي " كلٍ يبكي على موتاه ". حتى أن بيانات ومذكرات الاحتجاج التي اصدرتها الأحزاب والحركات( الكردية، الاشورية، التركمانية) على وثيقة الهيئة، لا تخلو من تناقضات ومغالطات سياسية. التناقض يبدو أكثر وضوحا وبارزاً لدى القوى الكردية. فهي(القوى الكردية) لا تختلف كثيراً عن القوميين العرب، في تعصبها القومي وفي قراءتها العنصرية لتاريخ سوريا والمنطقة، كذلك في تطلعاتها وأحلامها القومية. حين يزعم الساسة والقوميون الأكراد بأن، ثمة مناطق سورية هي " ارض كردستانية وهي وجزء من كردستان الكبرى أو التاريخية"، بماذا يختلفون عن القوميين العرب، الذين يزعمون "بان سوريا دولة عربية وهي جزء من الوطن العربي ومن الأمة العربية"؟؟. إذا قيض لأكراد سوريا يوماً أن يقيموا كيان قومي خاص بهم في المناطق التي يزعمون بأنها " كردستانية"، هم سيسمون دولتهم " كردستان" أو "كردستان الغربية" وسيصبغونها بهوية "كردستانية"،من غير أن يعيروا اي اهتمام أو اعتبار لهويات القوميات الأخرى ( عرب، آشوريين، أرمن، تركمان) التي تعيش معهم في هذه المناطق، تماماً كما فعل ويفعل القوميون العرب. لا خلاف على أن وثيقة الهيئة العليا للمفاوضات، وبما تضمنته من مبادئ اساسية وتوجهات قومية عروبية اسلامية، تثير مخاوف وهواجس مشروعة لدى الآشوريين و الأكراد والتركمان ولدى السوريين من غير العرب عموماً. لكن بالمقابل، رفع أكراد سوريا سقف مطالبهم من الاعتراف الدستوري والحقوق الثقافية والسياسية، الى إقامة "اقليم كردي" فدرالي في سوريا، هم أيضاً، يثيرون مخاوف وهواجس مشروعة لدى السوريين من غير الكرد. لأن مطلب الفدرالية يخفي نوايا او نزعة انفصالية، مهما حاول الأكراد التبرؤ منها.&

&

باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات

[email protected]