في الفصل الخامس والثلاثين من كتاب "المقدّمة"، يشير ابن خلدون إلى أن "السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره". وهو يضيف قائلا بأن أهل الحكم في فترة "تمهيد أمرهم" هم في أشدّ الحاجة إلى السّيف لأنه "شريك في المعونة". أمّا القلم فهو "فقط خادم منفّذ للحكم السّلطاني". وعندما تستتبّ الأمور لأهل الحكم، تُهْمَل السّيوف في "مضاجع أغمادها"، وتعظم الحاجة إلى القلم ل"مباهاة الدول وتنفيذ الأحكام".وفي مثل هذه الحال، يكون أرباب الأقلام أوسع جاها، وأعلى مرتبة، وأعظم نعمة وثروة من أرباب السّيف. لكن حين يتسرّب الضّعف إلى الدولة "ويقلّ أهلها بما ينالهم من الهرم"، يلجأ أهل القرار إلى السّيف من جديد للدفاع عن وجودهم. بهذا الكلام الواضح الدّقيق، حدّد ابن خلدون بمهارته المعهودة العلاقة بين أهل السّلطة والنّفوذ، وبين أهل الفكر والقلم في العهود العربية القديمة. ونحن نعتقد أنّ ما توصّل إليه من حقائق في هذا الشأن لا يزال ينطبق على واقعنا العربي الرّاهن. وهذا ما نتبيّنه من خلال العودة إلى بعض المحطّات الأساسيّة في تاريخنا المعاصر.

**

في النّصف الأول من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، عرف العرب ما اصطلح على تسميته ب"حركة النهضة" التي طالت مجالات متعدّدة سياسيّة، ودينيّة، وثقافيّة واجتماعيّة. وكان السؤال المحوري الذي شغل زعماء وقادة الحركة المذكورة في بلاد المشرق كما في بلاد المغرب، يتّصل بالكيفيّة التي بواسطتها يتمكّن العرب من الخلاص من كبوتهم الحضاريّة، والنهوض بأوطانهم لتلتحق بالأمم المتقدّمة، وتصدّ المخاطر المحْدقة بها. وعلينا ألاّ ننكر أن حركة النهضة ساهمت مساهمة فعّالة في إحداث اليقظة المرجوّة، والمبتغاة من قبل مجتمعات عربيّة عاشت قرونا من الرّكود والإنحطاط، سامحة للنخّب المثقّفة بالإطّلاع على منجزات الحضارة الغربيّة في مجالات مختلفة ومتعدّدة. وفي تلك المرحلة الحبلى بالأحلام والآمال، كانت أهداف أهل السياسة، وأهل الثقافة متقاربة، بل مشتركة. لذا لم تنشأ بينهم صراعات، بل توطّدت علاقاتهم، وتدعّم تضامنهم. وإذا ما كان أهل السياسة قد صرفوا جهودهم لبعث أحزاب وتنظيمات للنهوض بمجتمعاتهم، ولمواجهة المخطّطات الإستعماريّة التي باتت آنذاك واضحة للعيان، فإنّ أهل القلم إرتأوا أن الشجاعة الفكريّة هي الوسيلة الأنجع لإحداث النهضة المرجوّة، وبعث حركة نقديّة تتصدّى بحزم وقوّة للتزمّت الديني الذي كان يكبّل مجتمعاتهم، معمّقا جهلها بالتحوّلات التاريخيّة التي كان يشهدها العالم. وفي تلك الفترة ظهرت أعمال أثرت في الثقافة العربيّة التي كانت تعيش آنذاك ركودا مفزعا مثل "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" للمصري رفاعة الطهطاوي، و"أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" لخير الدين باشا التونسي، و"طبائع الإستبداد" للسّوري عبد الرحمان الكواكبي. وفي مطلع القرن العشرين أتسعت تأثيرات حركة النهضة لتشمل العديد من البلدان. وقد إنعكست تلك التأثيرات في أعمال نقديّة وفكريّة كان لها وقع هائل في أوساط النخب المثقّفة سواء في مصر، أو بلاد الشام،أو العراق،أو تونس. ومن بين تلك الأعمال المهمّة يمكن أن نذكر "تحرير المرأة" لقاسم أمين، و"الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرّازق، و"في الشّعر الجاهلي"، و"مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين، و"رسالة التحرّر في القرآن" للشيخ عبد العزيز الثغالبي، و"امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للطاهر الحدّاد، وقصائد الزهاوي، ومعروف الرصافي وأبي القاسم الشابي، وكتابات شبلي شميل، وسلامة موسى وغيرهم...وبرغم قلّة المواصلات بل إنعدامها أحيانا، فإنّ النّخب السياسيّة والثقافيّة كانت تتبادل الأفكار والآراء، وترسم المشاريع الكبيرة بالنسبة للمستقبل، مهيّئة نفسها لبناء الدولة الوطنيّة العصريّة، وتحقيق التقدم الذي تتطلّع اليه المجتمعات، والتصدّي للقوى الإستعمارية التي كانت قد بسطت نفوذها على جلّ البلدان العربيّة. وبفضل حركة النهضة، أخذت مظاهر المجتمعات القديمة، وخاصّة في المجال الثقافي والسياسي والديني تتقلّص، وتتراجع. ويعود ذلك إلى ظهور المدارس العصريّة التي أدرجت العلوم والمناهج الحديثة في برامج التعليم. كما تعود إلى تعدّد الأندية الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة خصوصا في العواصم والمدن الكبرى، والتي ساعدت على إنتشار الأفكار النيّرة بين النخب الصّاعدة. وشيئا فشيئا راحت قوى التزمّت والرجعيّة الرّافضة لأيّ شكل من أشكال التقدّم والرقيّ تفقد الكثير من مهابتها، ومن تأثيراتها القديمة، ومن مواقعها الحصينة. بل بدت أحيانا وكأنها في حالة إحتضار وذبول. وحين تحاول كسب المواقع التي فقدتها، تتصدّى لها القوى الصّّاعدة، الرّاغبة في التطوّر والتّقدّم بشجاعة، ورباطة جأش فتنكص إلى الوراء من جديد وقد دبّ في صفوفها الذّعر والإضطراب. وذلك ما تعكسه الصّراعات والمعارك بين ما سمّي قي تلك الفترة ب"القديم"،و"الجديد"، المتمثّلة في محاكمة د.طه حسين بسبب كتابه"في الشعر الجاهلي"، والشيخ علي عبد الرّازق بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم". وقد كانت القوى الرجعيّة والمتزّمته هي المحرّضة والدّاعمة لتلك المحاكمات الجائرة. فقد اعتبرت كتاب "في الشعر الجاهلي" تعدّيا صارخا على القرآن. وأمّا كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي طالب فيه مؤلّفه علي عبد الرازق بضرورة فصل الدين عن الدولة، ناسفا بذلك أحد الأسس المهمّة للدولة الدينيّة، فقد رأت فيه مسّا من روح الشريعة الإسلاميّة. وفي تونس حوكم الطاهر الحداد بسبب كتابه"امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، وآتهم الشابي بالكفر والإلحاد. وعندما نعود إلى كتابات، ومواقف رموز النهضة في تلك الفترة من مفكرين وكتّاب، ومثقين ومصلحين من أمثال شبلي شميّل، وفرح أنطون، ومحمد عبده، ولطفي السيّد، وقاسم أمين، وطه حسين، وعبد الحمان الكواكبي، وعبد العزيز الثعالبي، وجميل صدقي الزهاوي، وآخرين، نصاب بالدهشة أمام الجرأة التي كانوا يتمتّعون بها، وأمام القدرة الفائقة التي كانوا يظهرونها في الردّ على خصومهم الفكريّين والسياسيّين.

**

بعد الحرب الكونيّة الثّانية، اندلعت العديد من الثورات التحريريّة في العالم العربي أدّت إلى الإستقلالات الوطنيّة. وفي هذه الفترة المتّسمة بالأمل، والنّخوة الوطنيّة، والحماس الفيّاض لبناء الدولة الجديدة، خسرت قوى التحجّر والجمود المزيد من مواقعها ونفوذها.أما قوى التّنوير، والتقّدم فقد كسبت إنتصارات هائلة على مستويات متعدّدة. تجسّم ذلك في بروز فنّ الرواية، وما سمّي ب"الشعر الحديث" المتحرّر من الأوزان الخليليّة،.كما تجسّد في آزدهار فن الغناء، والموسيقى، والمسرح، والسينما، والفنون التشكيليّة، والرقص...غير أن ذلك "الزّمن الذّهبي" لم يدم طويلا. فعقب الإنقلابات العسكريّة التي حدثت في مصر، وفي سوريا، وفي العراق، ثمّ في ليبيا في ما بعد، وجميعها دبّرت ب"اسم الشعب"،،ومن "أجل الشّعب"، شهد العالم العربي قطيعة فظيعة وخطيرة بين أصحاب السلطة وأصحاب القلم. تمّ الأمر بشكل مخيف ومباغت. فقد نسى مدبّرو الإنقلابات العسكريّة "الثوريّون"، وأيضا القادة الجدد الذين استلموا السلطة في الدول الوطنيّة التي جاءت بها الإستقلالات، الوعود التي قطعوها على أنفسهم أمام شعوبهم الهاتفة بحياتهم، وباتوا يتصرّفون كما لو أنهم وحدهم المسؤولون عن مصير بلدانهم. وباسم "الحفاظ على سلامة الوطن"، وعلى "الوحدة الوطنيّة"، وعلى "مكاسب الشّعب"، شنّ هؤلاء حملات قمع واسعة كان المثقّفون والمفكرون من ضحاياها البارزين. وفي ظرف سنوات قليلة امتلأت السجون والمعتقلات برموز النخب المثقّفة، وتحوّلت المدارس والجامعات، والمؤسسّات الثقافية،والأكاديميّة، إلى مراكز داعمة بشكل مطلق للأنظمة القائمة، وخادمة لبرامجها ولمشاريعها. وفي هذا الجوّ المشحون بالقمع والتّعسّف، برز مثقّفون إنتهازيّون راحوا يتمسّحون بأعتاب رجلات السلطة مشيدين ب"عبقريّتهم"، وب"وطنيّتهم"، مبرّرين بمختلف الطرق والوسائل، الجرائم البشعة التي كان يرتكبها هؤلاء ضدّ مجتمعاتهم، وضدّ الثقافة، وضدّ أبسط القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة.

**

خلال العقود التي سبقت إنتفاضات ما سمّي ب"الربيع العربي"، إزدادت هوّة القطيعة بين أهل السلطة، وأهل القلم آتساعا وعمقا. والسبب الأساسي في ذلك هو أن القادة السياسيّين في مختلف أنحاء العالم العربي، ظلّوا مصرّين على أن سياسة القوّة والهراوة الغليظة هي وحدها الضّامنة لبقائهم، وتوطيد نفوذهم. أمّا الأنظمة البتروليّة الغنيّة فقد آهتمّت بتقديم الدّعم المادّي والمعنويّ للحركات الأصوليّة التي أصبحت تهيمن على المشهد السياسي والإيديولوجي. ورغم المجازر والجرائم التي ارتبكتها باسم الدين، فإنّ هذه الحركات تمكّنت من التّحكّم في الوجدان الشعبي من خلال القنوات التلفزيونيّة، والمواعظ الدينيّة والكتب الصّفراء. واعتمادا على عمليّات "غسل الدّماغ" التي برعت فيها إلى حدّ كبير، تغلغلت الحركات الأصوليّة المتطرّفة في أوساط الشباب المتعلم مُعيدة الإعتبار للشعوذة، والدجل، وثقافة الموت. ولم تكن الحركات الأصولية تستهدف الأنظمة القائمة فقط، بل كانت تستهدف أيضا النخب المستنيرة. وهذا ما يفسّر تكفيرها لرموزها، واستباحة دمهم، والتحريض على قتلهم. والهدف من ذلك هو تحقيق الفراغ الثقافي والفكري الذي يفتح الطريق واسعا أمامها لكي تبسط سيطرتها ونفوذها على المستوى السياسي والإيديولوجي والديني. وقد ظنّ الكثيرون أن إنتفاضات ما سمّي ب"الربيع العربي" والتي أطاحت بأنظمة فاسدة وقمعيّة، رافعة شعارات من أجل الحريّة والكرامة، يمكن أن تعيد الإعتبار للنخب المستنيرة المدافعة عن قيم الحداثة لتلعب دورها في بناء المستقبل. إلاّ أن الحركات الاصوليّة آنقضّت على تلك الإنتفاضات إنقضاض الطيور الكاسرة على ضحاياها لتنحرف بها عن أهدافها الحقيقيّة، مصادرة مكاسبها لصالحها. وكان من الطبيعي أن تزداد هجمات الحركات الأصوليه على النخب المستنيرة شدّة وضراوة، وأن تستفحل من جديد الدعوات إلى التّكفير، والتّحريض على العنف والقتل ضدّ كلّ من يفضح مخطّطاتها الجهنّميّة. وهذا ما تعكسه الأوضاع راهنا في جميع بلدان إنتفاضات ما سمّي ب"الربيع العربي"، أي تونس وليبيا، ومصر، واليمن،وسوريا. والحركات الأصوليّة تمثّل راهنا "السّيف". أما النخب المستنيرة فهي من "أهل القلم". ونحن نظنّ أن المستقبل في البلدان المذكورة مرهون بنتائج الصرّاع المرير المشتعل الآن بين من يريدون الإرتداد بمجتمعاتهم إلى ظلمات الماضي، وبين القوى الحيّة المتطّلعة إلى التنوير والإصلاح والتحديث. فإن خسرت هذه القوى معركتها المصيرية، فسوف يغرق العرب من جديد في الظلمات لأمد طويل.