لا يلام حسن نصرالله. موقعه يلزمه بالخوض في ما يعرف وفي ما لا يعرف أيضاً، ومن ذلك موقفه من دولة الإمارات العربية المتحدة في خطابه الأخير. قال أمين عام حزب الله عن دولة الإمارات إنها “تقدّم نفسها دائماً بأنها دولة الحضارة والمدنية وغير ذلك”، موحياً أن هذا التقديم للدولة هو مجرد إدعاء غير مسنود.
فعلاً لا يلام. لن يتسنى له أن يغادر مخبأه على الارجح وأن يزور هذه الدولة، (أو أي بقعة متقدمة في العالم) ليطلع عن قرب على نهضتها الموصولة منذ اعلان الإتحاد عام ١٩٧١، وما عناه الإتحاد نفسه كمنجز سياسي حضاري ومدني، وصولاً الى معجزة “كوكب دبي”!
لو تسنت له الزيارة كان تجنب تحديداً محاولة النيل من صورة الإمارات كدولة حضارة ومدنية. المفارقة أن عبارته هذه تزامنت مع إختتام دبي أعمال “قمة الحكومات العالمية”، التي كان من بين فعالياتها ندوة حوارية مع حاكم دبي ورئيس مجلس الوزراء الاماراتي الشيخ محمد بن راشد، بعنوان “إستئناف الحضارة”!!
إستئناف الحضارة. نعم!&
هل يدرك حسن نصرالله عمق هذا العنوان وأبعاده ونتائجه، وهو يصلي الإمارات نقداً يفتقر كل نباهة النقد ويحوز على كل صفاقة الردح؟ هل يدرك معنى أن تحضر دولة بكامل أركانها، يتقدمهم ولي عهد الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لمناقشة قضايا المستقبل القريب والبعيد لدولة الإمارات وللعالم أجمع؟
سأل العالم المصري فاروق الباز مدير معهد أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأميركية الشيخ محمد حول أهم إنجازاته، فأجاب حاكم دبي: "أعتقد أن أكبر إنجاز على الإطلاق يتمثل في صناعة الإنسان”. هل يدرك حسن نصرالله معنى هذه العبارة وهو الغارق حتى أذنيه في كل الحروب الأهلية في المنطقة لا سيما في سوريا؟ هل يدرك معنى صناعة الإنسان من كان شريكاً في قتل نصف مليون سوري وتهجير أكثر من 13 مليون منهم وتدمير أكثر من نصف الوحدات السكنية المنشأة في سوريا، دعك عن إختطاف لبنان والذهاب به الى أسوأ ما يمكن أن يكون عليه بلد بإمكانات لبنان الكثيرة؟
إعتدنا في العالم الثالث أن يرفع المسؤول شارة النصر. رأيناها مع جمال عبد الناصر و أبو عمار و صدام حسين ومعمر القذافي وشاهدناها ترتفع الى مصاف المقدس مع ما سماه نصرالله “النصر الالالهي” في حرب 2006 التي دمرت لبنان، كما دمرت الإنتصارات الأخرى مدناً وشعوباً ودولاً.. والاهم دمرت الإنسان!
يرفع محمد بن راشد ثلاثة اصابع بدل إصبعين. أمام مكاتبه في أبراج الإمارات في “مركز دبي المالي” يلحظ المارة منحوتة ذهبية لقبضة ترفع ثلاثة أصابع &كأنها تشير الى رقم ثلاثة، والى جانبها مجسمات بيضاء هي عبارة عن «مكتب المستقبل»، وهو أول مبنى مطبوع ومعد للاستخدام بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد على مستوى العالم، ويشكل المبنى المؤقت لمؤسسة دبي للمستقبل.
أصابع ثلاثة تشير الى المستقبل. الى الإنتصار الحقيقي للإنسان، والانتصار به وبسعادته ورفاهه، بدل أصابع شارات النصر الوهمية، التي لا يحتفل بها الى وسط “الدمار العظيم” بحسب عبارة الشاعر حسن عبدالله والتي تحولت نشيداً ثورياً لليسار العربي غناه مرسيل خليفة!
تناقش دبي كيف سيكون بوسع الانسان أن يطبع الكلى وغيرها من الاعضاء البشرية. تناقش زراعة الأعصاب. تناقش مستقبل الزراعة المدينية ومستقبل النقل، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي. تناقش شروط السعادة في عالم اليوم، وتفعل ذلك وهي مهجوسة ببناء الإنسان.
يقول الشيخ محمد بلا اي تكلف “نريد أن نصعد الى المريخ”. يرمي فكرته وكأنه يطلعك على رحلة اعتيادية ينوي القيام بها الى دولة جوار. ليس همه الأول هو المريخ، بل أن من يخطط ويصمم هذه الرحلة هم إمارايتون استثمرت دولة الامارات في مستقبلهم وعلمهم وتقدمهم. همه “إلهام الأجيال الجديدة، لرفع سقف طموحاتها وتوسيع آفاقها المعرفية، وتحفيز فضولها العلمي، بما يخدم مستقبل دولة الإمارات وخططها التنموية، ويضيف بصمة إماراتية إلى مسيرة المعرفة البشرية”.
أتحرج من الكتابة عن الامارات ودبي وعن الشيخ محمد بن راشد تحديداً. فشبهة التزلف قائمة دوماً في هذا نوع من الكتابة. وأتحرج من المقارنة بينه وبين قادة الإمارات من جهة وبين آخرين. فالظلم سيقع على الإثنين. لا ينحدر المرء بتجربة كهذه لمقارنتها مع تجارب رؤساء ميليشيات أو رؤساء دول فاشلة. ولا يطلب المرء فهماً وأداءاً مماثلاً، ممن لا يحتك بالعالم الا من زاوية صراخه “لا توجد قوة في هذا العالم … كذا وكذا”!
لكنها طبيعة البشر وطبيعة عمل العقل البشري الذي لا يدرك الاشياء الى بالمقارنة والتناسب.&
في نفس العالم، وعلى بعد بضع ساعات طيران، ثمة من يرقص فوق ركام حلب، إحدى أقدم المدن ومراكز الحضارة والمدنية في تاريخ البشر، يقابله من يبحث، في صحراء سابقة، عن كيفيات وسبل “إستئناف الحضارة”.&
إنها ثقافة الأمل في مواجهة ثقافة العدم.&
هذا ليس فارقاً في السياسات، بل فارق حضاري يقاس بالسنوات الضوئية. فارق لا يقلصه تطاول من لا يعرف ومن لن يعرف بالتأكيد.
&