&
من مهازل عالم اليوم المأساوية ان تقرير المصير لم يعد بيد الشعوب التي تريد ان تمارس هذا الحق بل بيد قوى خارجية تكون عادة كبرى أو غاشمة. فحين أراد شعب البوسنة ان يعلن دولته المستقلة إسوة بسلوفينيا وكرواتيا بعد تفكك يوغسلافيا السابقة تعرض الى حرب لا هوادة فيها شنه نظام سلوبودان ميلوشيفيتش في صربيا. وما زالت مجزرة سريبرنيتسة التي أُبيد فيها نحو 8000 رجل وشاب مسلم طرية في اذهان المجتمع الدولي ووصمة عار في جبين حلف الأطلسي الذي وقفت قواته لحفظ السلام تتفرج على المجزرة، وكذلك حصار العاصمة سيراييفو الذي استمر ثلاث سنوات من القنص والقصف على المدنيين. ولم يتمكن شعب البوسنة من ممارسة حقه في تقرير المصير إلا بعد تدخل الولايات المتحدة وجر ميلوشيفيتش جراً الى طاولة المفاوضات للتوقيع على اتفاقية دايتون. وعندما اراد شعب كوسوفو المسلم الاستقلال عن صربيا كان هدف مجازر مماثلة الى ان تدخل حلف الأطلسي وقصف بلغراد في حملة جوية واسعة تكفيراً عن خطاياه السابقة بحق مسلمي البوسنة. وعندما اعلنت كاتالونيا اجراء استفتاء على استقلال الاقليم عن اسبانيا ردت مدريد برفض الاستفتاء على انه لا دستوري وأمرت الشرطة بمصادرة صناديق الاقتراع واعتقال كل من يدعو الى المشاركة في الاستفتاء.&
والآن، بعد ان صوت أكثر من 92 في المئة من كرد العراق لصالح استقلال اقليم كردستان يتعين على حكومة الاقليم ان تقنع بغداد وانقرة وطهران ودمشق وواشنطن والاتحاد الاوروبي وموسكو قبل ان تستطيع ممارسة حق اقره وودرو ولسن، رئيس اميركا الرأسمالية، وفلاديمير لينين، زعيم روسيا الشيوعية، قبل أكثر من 100 سنة.&
غني عن القول ان حكومة بغداد هي أضعف حلقات المعارضة لاستفتاء كردستان ونتيجته. فالذين يحكمون (اقرأ ينهبون) العراق اليوم مستعدون للتنازل عن كل العراق على ان يحتفظوا بآبار النفط والمنطقة الخضراء للاستمرار في سرقة المال العام وشفط ثروات البلد. وبالتالي فان فرص رئيس الاقليم مسعود البارزاني في التوصل الى اتفاق مع رئيس الوزراء حيدر العبادي على الاعتراف بنتيجة الاستفتاء والشروع في اجراءات الطلاق بالتراضي فرص أفضل بكثير من اقناع جيران ليس من حقهم، على ما يُفترض، ان يتدخلوا في شؤون جارهم. وإذا ظهرت معارضة جادة من بغداد فهي معارضة على الأرجح مدفوعة من ايران التي لديها أدوات ضغط متعددة يمكن ان توظفها ضد الكرد بحكم نفوذها الواسع في العراق.&
مشكلة الكرد ليست مع العبادي بل مع كواسر مثل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذين يريد ان يعلن نفسه أمير المؤمنين وسلطان المسلمين في القرن الحادي والعشرين، ومع ملالي ايران الذين لا يقبلون بكل ما من شأنه إضعاف نفوذهم في العراق، ومع جزار الشعب السوري بشار الأسد الذي لم يمنح كرد سوريا جنسية بلدهم طيلة السنوات السابقة الى ان انتزوعها منه بقوة السلاح.&
هؤلاء كلهم يخافون ان تصبح كردستان المستقلة نواة دولة على جميع اجزاء كردستان. فتركيا التي اجهضت مشروع الدولة الكردية الأولى بعد الحرب العالمية الاولى لن ترضى بوجود دولة على اعتابها تكون مصدر الهام وتشجيع لكردها البالغ عددهم ما بين 15 و20 مليوناً لديهم حركة سياسية تسيطر على عشرات البلديات في كردستان تركيا وتنظيم مسلح يقاتل الجيش التركي منذ نحو 30 عاماً. وايران التي أسقطت جمهورية مهاباد بعد الحرب العالمية الثانية لن تقبل بتكرار التجربة على حدودها الشمالية الغربية وهي التي رفضت الاعتراف بحقوق الشعب الكردي في كردستان ايران حتى دفعت جناحاً من الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ ايران الى حمل السلاح. وسوريا البعث التي صمَّت الأسماع بشعاراتها العروبية لم تعدم وسيلة إلا واستخدمتها للتنكيل بالشعب العربي السوري ومصادرة حقوقه الانسانية والديمقراطية فما بالكم بحقوق الشعب الكردي!
تركيا التي لها قواعد عسكرية اقامتها في كردستان العراق بموافقة صدام حسين ولديها زهاء 1300 شركة تعمل في الاقليم حيث تحقق ارباحاً طائلة، ابدت استعدادها للتفريط بمصالحها الاقتصادية ذاتها على ان تسمح بوجود كيان يشجع كردها على المطالبة بحقوقهم. والولايات المتحدة التي لم تجد حليفاً أقوى وأكثر مصداقية لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" في سوريا من وحدات حماية الشعب الكردية، أعلنت في اكثر من مناسبة انها لن تفرط بصديق تاريخي وعضو في حلف الأطلسي مثل تركيا من اجل ان يمارس الشعب الكردي حقه في تقرير المصير. وايران التي بينها وبين تركيا والشيطان الأكبر اميركا ما صنع الحداد ضمت صوتها الى انقرة وواشنطن ضد الشعب الكردي. فسبحان الذين جمعهم من غير ميعاد. &
&
&