&
&
عانى الفكر العربي خلال المائة سنة الماضية من الخلاف حول خيرة الوسائل لتحقيق التنمية المستدامة، الرأسمالية المطلقة أم الشيوعية المطلقة أم الاشتراكية المطلقة أم الثيوقراطية المطلقة؟ لأن ثقافة المطلق، وثقافة الكأس المليان، وثقافة الواحد والصفر (الواحد للفائز والصفر للمنهزم)، وثقافة الصدر أو القبر (نحن قوم لا توسط عندنا...لنا الصدر بين العالمين أو القبر)، هي الثقافة المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط. كما استمر الخلاف حتى اليوم حول صلاحية الثورة المفاجئة او الإصلاح التدريجي. وقد عقد الإجابة على هذا السؤال تطورات العولمة الجديدة، بعد أن تحول العالم لقرية عولمة صغيرة وسريعة التغير جدا، ليطرح فريق بأن تغيرات العولمة بتكنولوجياتها السريعة لن تعطي الفرصة لثورة تقلب مؤسسات الدولة رأسا على عقب، والتي ستحتاج لوقت طويل مرة أخرى لإصلاحها، فإعادة الإصلاح نفسه، وتطوير خبراته، وتقيم أخطاه وتعديلها، يحتاج لوقت طويل، بل سيحتاج لثورة تصحيحية، ومن ثم لثورة تصحيحية أخرى، ومن ثم الى انقلاب عسكري، وليؤدي ذلك لتخلف هذه الدولة عن عجلة سرعة العولمة، ولتتخلف عن تحقيق تنميتها المستدامة، بسبب صراعات قياداتها على السلطة، مع تعثر تعاملها مع تحديات العولمة الاقتصادية المتصاعدة والسريعة. كما تتصور هذه الفئة بأن ثورات الشرق الاوسط خلال المائة سنة الماضية، انتهت معظمها لدكتاتوريات علمانية او ثيوقراطيات سرطانية، أدت لتخلف المواطن، وعطلت التنمية المستدامة، بل لتضيف لهذه التحديات حروب طائفية، دمرت البنية التحية، وجرحت وقتلت مئات الألوف، وخلقت ملايين من اللاجئين الجدد، فالذين كانوا يساومون على النكبة، خلقوا عدة نكبات جديدة في وطننا العربي، بل واسوء منها.&
وقد واجهت بلدي مملكة البحرين هذه التحديات الفكرية بين الثورة والإصلاح منذ الاستقلال في بداية سبعينيات القرن الماضي، مع اختلاطات النكبة، والحروب العربية الاسرائيلية، ومع المد القومي الناصري والاشتراكي البعثي والرأسمالي الساداتي، لتبرز خاصة مع موجات ما سمي بالربيع العربي في عام 2012، بين فريق دعا لاختيار الإصلاح التدريجي، وفريق آخر طالب بالثورة، وقد استغلت الفرصة دول مجاورة، لتدفع بعملائها لمحاولة الدفع لثيوقراطية سرطانية انقلابية فاشلة. لقد كرر شعب مملكة البحرين اتفاقه على طريق الإصلاح التدريجي المتزن والحكيم، في عام 2011، حينما وافق 98.4% منه على ميثاق وطني، أنبثق منه دستور أكد بأن البحرين مملكة عربية دستورية، كدولة معاصرة تضم نظام تنفيذي حكومي، وسلطة قضائية مستقلة، وسلطة تشريعية تجمع بين مجلس شورى معين من خيرة خبرات البلد المخلصة للوطن، ومجلس نيابي منتخب من عامة الناس، كما اكدت التشريعات الجديدة بمنع الجمع بين الخطاب السياسي والخطاب الديني، وعلى أن تتطور هذه التجربة من النظام الرأسمالي ذي المسئولية الاجتماعية، بتوفر الخدمات التعليمية والصحية والسكنية والوظيفة مع نظام تعطل وتقاعد، لمستوى الدول الاسكندنافية. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل حان الوقت لأن تركز المعارضة على الثورة الذاتية في الإنسان ذاته، لكي يحقق التنمية المستدامة، وذلك بتركيزه على فلسفة النقد الذاتي، لكي يحقق إصلاح شخصي ومجتمعي، أكثر أخلاقية وعلما وتدريبا وبإنتاجية مهارة مبدعة، وخاصة بعد أن انخفضت إنتاجية الفرد في المنطقة لأقل من الساعة في اليوم؟ وهل من الممكن ان نستفيد من التجربة اليابانية للإجابة على هذا السؤال؟
لمعالجة هذا الموضوع، نحتاج لمراجعة كتاب يضم حوالي الألف صفحة، بعنوان إمبراطور اليابان، "ميجي" وعالمه، 1852-1912، كتبه بروفيسور جامعة كولمبيا الأمريكية، دونالد كين، والمتخصص في الادب والتاريخ الياباني، فأرجو أن نستطيع اختصار أفكاره الأساسية في مقال واحد. فقد قام هذا البروفيسور بمراجعة مخطوطات القصر الامبراطوري خلال الفترة 1852-1912 من تاريخ اليابان، ليعرض من خلالها تاريخ حكم امبراطور عهد التنوير، الإمبراطور "ميجي"، الذي لعب دورا هاما في وضع قواعد أخلاقية "بوشيدية" رصينة لحداثة يابان اليوم. فقد كانت تعيش اليابان منذ القرن الثالث عشرة تحت نظام اقطاعي حازم، يجمع بين ديوان إمبراطوري، منغلق الإمبراطور "الإلاهي" في قصره، وليس له علاقة بأمور الحكم، بل لا يخرج من قصره، ومحرم أن يراه المواطنين، وبين حكم عسكري يديره "الشوجن" (الحاكم العسكري)، وبمساعدة "الديموس" (لوردات الحرب) تتحكم في المناطق (250 ديمون) المختلفة من البلاد، مع مساعدة عساكر الساموراي، الذين كانت لهم قوة وسلطة واخلاقيات محددة، ومميزات مادية سخية في المجتمع. وقد ثار والد إمبراطور "ميجي"، الامبراطور "كومي" على النظام العسكري الاقطاعي في البلاد، بعد ان توج امبراطور لليابان في عام 1848، وحاول ان يبرز قوة القصر الامبراطوري لإصلاحه، ولكنه توفي من اختلاطات مرض الجدري، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، مما أدى ذلك لأن يصبح ابنه الامبراطور "ميجي" امبراطور اليابان المائة والاثنين والعشرين، في عام 1867، وهو في الخامسة عشرة من عمره.
لقد واجهه الإمبراطور "ميجي"، وهو في سن المراهقة تحديات كبيرة، تجمع بين تكملة دراسته (دراسة اللغة اليابانية والإنكليزية والاخلاقيات والقوانين الكونفوشيسية والادب والثقافة والتاريخ الياباني، والعلوم والرياضيات)، وبين تكملة الاصلاحات التي بدأها والده. وكانت من أكبر تحدياته الخارجية هي انفتاح اليابان المنغلقة على العالم، مع التعامل مع أطماع دول الغرب في اليابان، وفي مرحلة استعمارية غربية صعبة من التاريخ، مع حل مشاكل الحدود مع الصين وروسيا، والخوف من غزو الغرب لكوريا الضعيفة، والذي كان خطر على أمن اليابان. أما تحديات الحكم الداخلية فكانت معقدة جدا، وتتعلق بتطوير النظام العسكري الدكتاتوري الاقطاعي المتخلف، لنظام ديمقراطي غربي متقدم، بصبغة وثقافة يابانية متطورة. كما كان عليه ان ينقل اليابان من يابان العصور الوسطى إلى يابان التنوير والحداثة المعاصرة، بالتعليم والتدريب وبالأخلاقيات البوشيدية.&
وقد كانت من أهم التحديات التي واجهها إمبراطور ميجي في السنة الأولى من حكمه، فتح ميناء "هايجو" للأجانب، وحل مشكلة الجزر الشمالية مع روسيا، وإخماد الثورة ضد الدولة في منطقة "جوشو"، وإقناع الشعب الياباني بضرورة الانفتاح على الغرب مع الاستفادة من خبراته العلمية والتكنولوجية وتجربته الإصلاحية الديمقراطية في الحكم. وبعد حوارات ذكية مع مستشارية ولوردات الاقاليم، ومع قوة شخصيته العاقلة والصبورة والمتواضعة والبسيطة والحكيمة والرزينة والحازمة والكريمة، استطاع أن ينجح في كسب ثقة الشعب، واخماد الثورة في الشمال بعلاج أسبابها، كما اتفق مع روسيا على حل مرضي لجزيرة سكلين الشمالية، وفتح بعض موانئ البلاد للأجانب وسمح لهم المتاجرة فيها، كما بدأ تهيئة الشعب لثورة تعليمية كبيرة، وإصلاحات ديمقراطية مهمة.
& وقد برزت حكمته وهو صغير حتى في الحوادث الصغيرة المحرجة، فمثلا كان دائما يستشار في قضايا مختلفة من رجال الدولة، وبدل أن يطرح الحلول، يصر على عرض هذه القضايا للنقاش المفتوح بين مستشاريه وممثلي الشعب، ليدفعهم لإيجاد الحلول المناسبة، بدون أن يطرح حلول بنفسه، لإيمانه بأن من يعتقد بأنه اكتشف الحل، سيكون اول من سيدافع عنه، ويحاول أن ينفذه. فمثلا، في صباح يوم 14 يوليو من عام 1867، في السنة الأولى من حكمه، وهو في الخامسة عشر من عمره، وبعد ان بدأت الأجانب الاستقرار في اليابان، اكتشفت واعتقلت وسجنت إدارة مدينة ناجازاكي مسيحي في الثامنة والستين من عمره. حيث كان اعتناق المسيحية ممنوع في اليابان، ومنذ مائتين وخمسين عاما، وليبقى المسيحيين الذين كان معظمهم من الفلاحين وصيداي الاسماك، مختفين عن بطش القانون. وقد كان هذا الموضوع موضوع حساس مع دول الغرب المسيحي، الذي كان الإمبراطور ميجي يحاول كسب ثقتهم، وقد استطاع بحكمته الاستفادة من هذه الحادثة، لمناقشة عامة لموضوع حرية اعتناق الاديان، ولينتهي بوضع قانون يسمح بممارسة الأجانب لدياناتهم المختلفة في اليابان وبحرية.&
وفي عام 1881 بدأت المطالبة بدستور وبرلمان وطني للبلاد، بعد أن هيئ الامبراطور ميجي منذ استلامه الحكم وبذكاء، شعب اليابان لهذه الخطوة، للتخلص من الحكم العسكري الدكتاتوري للشوجن، وهو في مقتبل العشرينات من عمره. فبعد أن حس الحاكم العسكري بالضغوط الشعبية، ومن جهات مختلفة في الدولة، وبعد أن أرسل مستشار الامبراطور ميجي، ياماجاتا اريتومو، في شهر ديسمبر من عام 1869 رسالة الى رئيس الوزراء يشرح تصوره حول الحكم الدستوري، وخاصة بعد استياء عامة الشعب من الحكومة، بسبب ارتفاع نسب البطالة والتباطؤ الاقتصادي وتدهور القيم والأخلاق، والذي أدى لبروز حركات المطالبة بالحرية والحكم الدستوري، ليصبح من الضرورة الملحة إرجاع ثقة الشعب بالحكومة، وذلك باصطلاح النظام التشريعي والقضائي والحكومي، وإلا ستندلع نار ثورة أخرى في الشمال. ومع أن المستشار أكد بأن هذه الإصلاحات ستحتاج للوقت، ولكن يمكن البدء أولا بوضع القواعد الأساسية لها، كما أكد بضرورة عدم الإضرار بمسئوليات الديوان الإمبراطوري في الدستور الجديد. وقد بدأت أولا عملية الإصلاح على مستوى المحافظات، حيث انتخبت مجالسها البلدية، وليؤكد المستشار بضرورة اختيارا خيرة العقول المبدعة في هذه المجالس للبرلمان الجديد. وقد دعم رئيس الحكومة هذه التصورات، كما أيدها الامبراطور بقوة. كما حذر أحد المقربين للإمبراطور السيد "اتو" خوفه من تأثير الثورة الفرنسية على الشعب، بل يجب الاستفادة منها بذكاء، للمحافظة على الاستقرار والحكم الإمبراطوري، كما يجب أن تكون خطة تأسيس البرلمان مدروسة بدقة، للمحافظة على الاستقرار في البلاد، واقترح بان يتشكل البرلمان من مجلسين على النمط الأوربي، بأن يكون المجلس "الأعلى" مكون من مائة شخص يختارون من خيرة النبلاء وعساكر الساموراي، لكي يضمن ولائهم، وتكون مسئوليته دعم الديوان الامبراطوري والمحافظة على الإرث والثقافة اليابانية. بينما سيتشكل المجلس "السفلي" من مشرفيين، ينتخبون من مجالس المحافظات، وتكون مسئولياته محددة بالأمور المالية. واعتقد "ايتو" بأن البرلمان سيخلق الاستقرار في البلاد، بينما سيقي المجلس الأعلى المجلس السفلي من التطرف والانحراف.&
بينما وضع المستشار المقرب من جلالة الإمبراطور،"اوكوما شيجينوبو"، سبعة مواد للمناقشة حول الدستور: لتناقش المادة الاولى تحديد يوم افتتاح البرلمان، واختيار الأشخاص لوضع مواد الدستور، وتحديد تاريخ بدأ بناء البرلمان الجديد. بينما تناقش المادة الثانية، تعيين مسؤولين، اعتمادا على مدى ثقة الشعب فيهم، كما ان تعكس قرارات البرلمان القادم رغبات الشعب، وبأن قيادة الحزب الأكثر شعبية سيقود البرلمان، كما ان تأسيس الملكية الدستورية ستساعد جلالته في اختيار خيرة المسؤولين لمساعدته، حيث سيختار رئيس الوزراء، ويطلب منه تشكيل الحكومة. اما المادة الثالثة تركز على التميز بين نوعين من المسؤولين، مسئول منتخب تنتهي مهمته حينما تنتهي فترة انتخابه، ومسؤول يحافظ على مركزه بشكل دائم، بشرط ان يكون محايد ولا يسمح له أن يكون عضو في البرلمان. اما المادة الرابعة فتؤكد بأن يكون الدستور مبسط، يضم اساسيات عامه، ويحدد مسئوليات السلطة الادارية، كما يوضح حقوق المواطن بدقة. بينما تقترح المادة الخامسة بأن يبدأ البرلمان مع بداية عام 1883، وليتحقق ذلك يجب ان يصدر الدستور في عام 1881، وبأن يتم اختيار أعضاء البرلمان في نهاية عام 1882. وناقشت المادة السادسة تشكيل الأحزاب، بينما أكدت المادة السابعة على اخلاقيات العمل السياسي والتنفيذي، وخاصة بضرورة أن تكون الأحزاب مخلصة لروح الحكومة الدستورية، لا أن تدخل في صراعات لتحقيق مصالحها الخاصة، وبذلك تشوه التجربة الديمقراطية، للأجيال القادمة.&&
وقد بدأت تتطور الأمور التنفيذية، وليبدأ ولأول مرة في تاريخ اليابان أن يكون الجيش تحت امرة الإمبراطور، ليس تحت سلطة الحاكم العسكري، وقد أكد الإمبراطور على ضرورة أن يكون ولاء العسكر للوطن. وبهذه الأفكار كتب وطور الدستور الياباني المعاصر، بعد زيارة وفود يابانية لدول الغرب للاطلاع على دساتيرها، وبعد ان وجد المستشارون بأن التجربة البريطانية والبروسية الألمانية من خيرة التجارب للاستفادة منها في اليابان. وقد صدرت النسخة الكاملة للدستور المعاصر في عام 1889، وبدون عرضه على أي استفتاء عام. والجدير بالذكر بأنه تم تطبيق هذا الدستور منذ عام 1890 وحتى تحولت اليابان من دولة اقطاعية فقيرة متخلفة إلى دولة صناعية تكنولوجية عظمى، بل ولتنتصر على دولة اوربية عظمى في الحرب الروسية اليابانية لعامي 1904-1905، ولتنتصر على دولة اسيوية عظمى في الحرب الصينية اليابانية الأولى 1894-1895، ولتتحول لقوة عالمية عظمى تنافس دول الغرب الاستعمارية في مستعمراتها، ولتنتهي بدخول لعبة البوكر الاستعمارية، ولتنتهي بصراعها مع الولايات المتحدة الامريكية إلى دمار الحرب العالمية الثانية. وقد قام الجنرال مكارثر ببعض التعديلات على هذا الدستور، وذلك بالفرض على اليابان التعامل مع خلافاتها الدولية بطريقة سلمية فقط، مع أضافة بأن يكون المجلس الاستشاري والنيابي منتخبين، مع زيادة حقوق المرأة ومساواتها بالرجل. وليستمر هذا الدستور حتى اليوم، برغبة الشعب الياباني بدون تغير، بعد أن أصبحت اليابان ثاني وثالث اقتصاد عالمي. ولم يكن سر نجاح اليابان تفاصيل الدستور بذاته، ولكن أخلاقيات المواطن الياباني في الالتزام به وتطبيق بنوده، والتي أصر عليها الإمبراطور ميجي، لتصبح اليابان اليوم من أكثر الدول سلما وامنا واخلاقية وتنمية. والجدير بالذكر بأن الإمبراطور ميجي توفى في عام 1912 نتيجة لاختلاطات مرض السكري، بعد أن طور اليابان من دولة فقيرة متخلفة ومنعزلة إلى دولة عظمى معاصرة، خلال الخمسة والاربعين سنة من حكمه. ولنا لقاء
د. خليل حسن، كاتب بحريني
طوكيو&

&