على امتداد عقدين من الزمن، تبلورت وترسخت الكثير من الانطباعات والمشاعر السلبية لدى العراقيين حيال الولايات المتحدة الأميركية، بسبب سياساتها ومواقفها التي خلفت كمّا هائلاً من المشاكل والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية للبلاد. وبالرغم من الجهود التي بذلتها واشنطن لتحسين صورتها السلبية في أذهان العراقيين، إلا أنها فشلت في ذلك إلى حد كبير، لا سيما أن مجمل أقوالها كانت - ومازالت - متناقضة وبعيدة كثيراً عن أفعالها، علماً أن المسارات الخاطئة في علاقاتها مع العراق لم تكن قد تحددت بعد الإطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، بل منذ مجيء حزب البعث المقبور إلى السلطة في عام 1968، وتوضحت وترسخت بقدر أكبر بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، واستحواذ صدام حسين على مقدرات الحكم بعد شهور قلائل من ذلك الحدث التأريخي الكبير.

هل ساهمت أو يمكن أن تسهم زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (13 - 20 نيسان 2024) إلى الولايات المتحدة الأميركية في دفع الاخيرة إلى مراجعة مواقفها وسياساتها وتوجهاتها والعمل على تصحيحها؟

يبدو أنه من المبكر القطع بشيء ما، ولعل الانتظار والترقب قليلاً ينفع في التقييمات الموضوعية، وإن كانت الأمور لا تدعو إلى الكثير من التفاؤل. وهنا لا بد من الإشارة إلى جملة قضايا بشأن الزيارة ومعطياتها ومخرجاتها.

القضية الأولى تتمثل في أن زيارة السوداني للولايات المتحدة الأميركية كانت هي الأطول من بين كل زياراته وجولاته الخارجية منذ توليه المنصب التنفيذي الأول في العراق، منتصف شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2022. حيث أنه، وعلى مدار أسبوع كامل، كان برنامجه والوفد الكبير المرافق له، حافلاً بعشرات اللقاءات والاجتماعات الرسمية وغير الرسمية مع كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية، بدءاً من الرئيس جو بايدن، مروراً بوزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، وصولاً إلى المدراء الكبار في المؤسسات المالية والاقتصادية المهمة. وكذلك اللقاءات والاجتماعات مع رؤساء كبريات الشركات الأميركية المتخصصة في مجالات الطاقة، فضلاً عن الندوات والمحاضرات في عدد من مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية المهمة، إلى جانب اللقاء مع أبناء الجالية العراقية في بعض الولايات والمدن الأميركية.

والقضية الأخرى أنه بدا واضحاً أن السوداني في كل أحاديثه وأطروحاته، كان حريصاً على التأشير إلى المشاكل والأزمات المختلفة، ودقيقاً في تشخيص الحلول والمعالجات المطلوبة لها، سواء تلك المتعلقة بالأوضاع العراقية الداخلية، أو تلك المتعلقة بالأوضاع الإقليمية والدولية العامة. فهو قال بالحرف الواحد: "تجاوز العراق الكثير من المخاطر والتحديات على امتداد أعوام، ونجح في تحويل التهديدات إلى فرص، وبات يتمتع اليوم باستقرار سياسي وأمني واقتصادي غير مسبوق، وتحول من عنصر سلبي ومنطلق للتأزم والتأزيم، إلى عنصر إيجابي له القدرة على صياغة وبلورة الحلول العملية الناجعة في محيطه الإقليمي، وبيئة جاذبة للنشاطات الاقتصادية الكبيرة والاستثمارات المالية الناجحة".

ولعل هذا كان جزءاً من مضمون وفحوى ما طرحه السوداني في واشنطن، وكل ذلك بمثابة رسائل سياسية مهمة، أثبتها الواقع القائم على الأرض خلال عام ونصف من الحراك المتعدد الاتجاهات والمستويات والعناوين والمساحات.

والقضية الثالثة هي أنه من دون أدنى شك أن الولايات المتحدة الأميركية، مثلما كانت معنية بمجمل التداعيات السلبية التي أثقلت كاهل العراق على مدى عقود من الزمن، فإنها معنية بمسيرة نهوضه الاقتصادي وانفتاحه السياسي، واستقراره المجتمعي، ليس من باب الوصاية والاحتلال العسكري، وإنما انطلاقاً من مقتضيات الشراكة والعلاقات البناءة القائمة على أساس احترام السيادة، وترسيخ مبدأ المصالح المتبادلة بإطاره الواسع والشامل، هذا إذا كانت فعلاً تحمل نوايا صادقة وإرادة حقيقية في هذا السياق.

إقرأ أيضاً: حكومات العراق المحلية وتوافقات الأمر الواقع

والقضية الرابعة هي أن إعادة توصيف مهام التحالف الدولي في العراق، وانهاء التواجد العسكري الأجنبي على أراضيه، على ضوء المتغيرات الحاصلة والحقائق الجديدة، يمثل أولوية أساسية ومدخلاً سليماً لتصحيح المسارات الخاطئة والانطلاق بمسارات صائبة، تنتهي إلى نتائج ومخرجات مثمرة. إذ أنه بقدر ما كان التواجد الأجنبي - والأميركي تحديداً - بمظاهره العسكرية وغير العسكرية، يعدّ جزءاً من الأزمة العراقية طيلة عقدين من الزمن، فإن إغلاق ذلك الملف بشكل صحيح، يعني تفكيك الأزمة وحلحلتها وتذويبها، ومن ثم الانطلاق في فتح الافاق الحقيقية والواقعية والضرورية لبناء الشراكات الاستراتيجية العميقة، التي من شأنها ان تقطع كل الطرق والمسالك نحو خلق ازمات ومشاكل جديدة.

والقضية الخامسة، هي ان مختلف الملفات والازمات المحلية الداخلية مرتبطة ومتشابكة ومتداخلة مع الملفات والازمات الخارجية الاقليمية وحتى الدولية، وان تباين المواقف والتوجهات بصورة حادة وكبيرة بين بغداد وواشنطن حول البعض منها، ربما يعرقل التعاون البناء والمنتج بينهما، وهو ما يقتضي من صانع القرار العراقي، تعاطياً عقلانياً وحكيماً يوفق ويوازن بين المصالح من جهة، والثوابت من جهة أخرى، وتجنب الانسياق وراء واقعيات سياسية مغلوطة. وهذا ينطبق - على سبيل المثال لا الحصر - على الموقف من القضية الفلسطينية والتطبيع مع الكيان الصهيوني.

فالعراق لا يمكنه أن يسير ويتحرك في الفلك الأميركي ويصمت حيال ما يجري في فلسطين من فظائع وجرائم، ويهرول وراء مشاريع التطبيع المذلة مع تل أبيب، كما فعلت دول عربية وغير عربية. في ذات الوقت لا يمكنه أن يغير سياسات واشنطن الداعمة لتل أبيب بالكامل. ولا شك في أن رئيس الوزراء العراقي كان واضحاً إلى حد كبير وهو يتحدث ويناقش كبار صناع القرار في واشنطن، بتأكيد وتثبيت موقف العراق الرسمي والشعبي من ذلك، وهذه نقطة جوهرية مهمة يمكن أن تتأسس وتبنى عليها مجمل الخطوات الأخرى، كما هو الأمر بالنسبة إلى علاقات بغداد مع كل من واشنطن وطهران، مأخوذاً بعين الاعتبار مساحة الاختلافات والتناقضات والصراعات الشائكة والمعقدة بين الاثنين منذ أكثر من أربعة عقود.

إقرأ أيضاً: المشهد الكردي وقرارات المحكمة الاتحادية

القضية الأخرى، هي أنه لا يختلف اثنان على أن العراق لن ينجح فقط من خلال تقوية وترصين ساحته الداخلية بكل أبعادها وعناوينها وجوانبها، وانما ينجح أيضاً عبر طبيعة وجوهر ومصداقية مواقفه وتوجهاته وسياساته الخارجية البعيدة عن الارتهان والتبعية والخضوع للقوى والارادات والمعادلات الدولية الكبرى.

وهنا من المهم التنويه إلى أن المواقف الأميركية الداعمة للكيان الصهيوني، على جميع الصعد والمستويات السياسية والدبلوماسية والامنية والعسكرية، يمكن ان تكون عائقاً كبيراً أمام بناء شراكات استراتيجية حقيقية واقامة علاقات راسخة وسليمة، ليس بين الولايات المتحدة والعراق فحسب، بل بينها وبين مختلف دول وحكومات المنطقة أيضاً.