قال لي صديقان من التيار القومي إن مقالاتي عن الوضع العراقي تتجاهل الواقع وتبالغ في الثقة بالسلطة العراقية، واتفقا وكل على حدة بأن محاكمة صدام كانت لصالح صدام بدليل الهيجان العربي لصالحه في شوارع العرب وبين نخبها القانونية والإعلامية والإسلامية.

1 ـ أما عن الموقف من الحكومة الجديدة فهي متهمة عند أمثال هذين الصديقين بعدم العزم والتخطيط لمحاربة الصداميين وسائر الإرهابيين بدليل استمرار الاغتيال والتفجير والعدوان المسلح في بغداد ومدن أخرى.

من الإنصاف التأكيد على أن انتقال السلطة للعراقيين تم في 28 حزيران فقط أي قبل أقل من ثلاثة أسابيع رغم تشكيل الحكومة قبل ذلك الموعد. فالحقيقة أن الملف الأمني انتقل للحكومة مع انتقال السلطة برغم حاجة العراقيين لمساعدة القوات الأجنبية في محاربة حرب الإرهاب المسلطة على العراق.

والحقيقة الثانية أنه من غير المعقول حل المشكلة الأمنية في بضعة أسابيع بل إنه، في رأيي، يتطلب وقتا أكثر حتى من بضعة شهور، على صعيد الإجراءات الأمنية الحازمة أولا، وكذلك على أصعدة توفير العمل، وإصلاح الخدمات، والمشاكل اليومية الأخرى للمواطن ـ فضلا عن تحسين وتطوير الإعلام العراقي الذي يواجه حرب الجزيرة وأخواتها، التي لا تزال، ويا للغرابة والأسف، تعمل بحرية في العراق مع أنها أداة رئيسة من أدوات عصابات صدام والزرقاوي وأنصار الإسلام.

إن أعداءنا في الداخل أقوياء في التسلح والمال وفي دعم بعض الدول العربية وإيران. ولهذه القوى ركائز بين شرائح من المواطنين المضللين والمهووسين طائفيا ودينيا، كما هناك عشرات الآلاف من المجرمين العاديين الذين أطلق صدام سراحهم والذين يهددون يوميا أمن المواطن.

والحقيقة الثالثة أن الحكومة قد نفذت خلال مدتها القصيرة جدا سلسلة من الإجراءات الأمنية وعلى رأسها صدور قانون السلامة الوطنية، والملاحقات الواسعة لعصابات الإجرام المنظم في بغداد وخارجها، والعمل لدمج الميليشيات السياسية بقوى الشرطة والجيش. وكانت قوات التحالف قد اقترفت أخطاء كبيرة في المجال الأمني، ويظهر أن الحكومة تضع ذلك في نظر الاعتبار في خطواتها الأمنية. أما القول بأن النص في القرار 1546 لمجلس الأمن على مشاركة القوات المتعددة الجنسيات في مطاردة عصابات الإرهاب عندما تطلب منها الحكومة يدل على أن الملف الأمني لا يزال في أيدي الأمريكان، فهو مجرد كلام يتجاهل واقع العراق اليوم. فقوات الأمن والشرطة العراقية لم تبلغ بعد مرحلة القدرة لوحدها على مواجهة حرب الصداميين والإرهابيين العرب. وتدل نتائج الاستفتاءات المتعاقبة في العراقي على أن غالبية المواطنين تدرى هذه الحقيقة ولذلك لا تريد مغادرة القوات الأجنبية في الوقت الحاضر. حتى بعض القوى والشرائح التي تكره أمريكا من العراقيين تقف الموقف نفسه. وكافة الأحزاب والقوى المشاركة في السلطة وبرغم خلافاتها الفكرية والسياسية تعلم أن مغادرة هذه القوات على عجل سوف تعرض العراق لاندلاع الفتن ولأوسع تدخل من بعض دول الجوار مما يهدد حتى الوحدة العراقية. كما أن استطلاعات الرأي الجديدة تدل على أن حوالي 70 بالمائة أو أكثر تثق بأشخاص رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهي تنتظر بصبر ما سوف تقدم عليه الحكومة من خطوات لاحقة لتحكم نهائيا على الحكومة، ولا سيما في مجال ملاحقة وتصفية عصابات الإرهاب البعثي ـ القاعدي. ولا يعقل أن تكون بعض القوى القومية على حق وحدها وأن تكون أغلبية القوى السياسية والمدنية على باطل. كما لا ينبغي بناء المواقف على تقييم الأشخاص والعلاقات السياسية والشخصية السابقة.

2 ـ والآن فإلى محاكمة الطاغية.

لقد كتب الكثير جدا عن الجلسة الأولى وهي جلسة إجرائية وليت جلسة محاكمة ومرافعة. وقد كتبت مع غيري أن مجرد تقديم صدام وشركائه للمحاكمة كان حدثا كبيرا، وكان يوم الأول من تموز يوما تاريخيا بالنسبة المواطنين العراقيين ووفاء لأرواح الضحايا. إن هذا الحدث الكبير، وبصرف النظر عن بعض الملاحظات حول أداء حاكم التحقيق، [ قاضي التحقيق] وهو جزء من السلطة التنفيذية وليس من القضاء المستقل عن تلك السلطة، [ استقلال القضاء]، كان مثار فرحة كبرى للعراقيين داخل الوطن وخارجه. كما كان موضع استبشار النخبة العربية المثقفة المتصفة بالموضوعية والجرأة على مواجهة التيار الغوغائي، بعمق التحليل وبالصدق والأمانة للتاريخ وللعدالة والإيمان بقيم حقوق الإنسان. أما الشارع العربي ونخب المحامين والإعلاميين والكتاب والفضائيات فهم مع صدام قبل الحرب وبعد سقوط نظامه، وهي تهلل لقتل العراقيين وتفجير الكهرباء وأنابيب النفط، وتمجد الملثمين الوحوش من قاطعي رؤوس الأبرياء أمام عدسات الجزيرة وأخواتها. وقبل بدء المحاكمة في الجلسة الإجرائية تداعي المحامون العرب بالمئات للدفاع عن الطاغية، سواء عن قناعة عروبية أو بالإغراء! والمظاهرات المؤيدة لصدام تندلع في الشارع العربي قبل سقوطه ولحد الآن بما في ذلك الشارع الفلسطيني الذي يرفع صور جلاد العراقيين. فالمرض الصدامي المصاب به العرب، لأسباب مختلفة، ليس جديدا ولم يكن سببه أداء حاكم التحقيق والتصريحات الوقحة لصدام أمامه.

وإذ نقول هذا كله، فلابد في نفس الوقت، من إبداء الملاحظات التالية:

إن جرائم صدام سياسية طبعا ولكنها قبل كل شئ جرائم الحق العام. وهذه الجرائم يجب أن تتقدم على كل جدل سياسي. فثمة عشرات الآلاف ممن قتلوا في السجون والمعتقلات بأمر صدام ولهم عائلاتهم لتشهد. وهناك مئات النساء المغتصبات. وهناك عائلات ضحايا المقابر الجماعية وحروب الأنفال . وهناك عائلات الشخصيات الدينية والسياسية التي اغتيلت بأمر الطاغية، ومنهم عائلات القادة البعثيين الذين قتلوا بخسة عام 1979. وهناك ضحايا التعذيب وقطع الأيدي والآذان والتوشيم وقطع اللسان، ألخ.

إن هذه الجرائم البشعة يجب إبرازها قبل القضايا السياسية لقطع الطريق على هؤلاء المحامين والإعلاميين المتحيزين لتحويل القضية لحلبة نقاش سياسي. ولهذا لا أرى مثلا أية مناسبة لإدراج بند جديد عن الحرب مع إيران لكونه سيثير نقاشا سياسيا واسعا قد يطيل أمد المحاكمة سنوات. والسبب هو أنه إذا كان صدام قد أشعل الحرب، فإن لإيران مسؤولية في إدامة الحرب رغم قرار مجلس الأمن لعام 1982 الصادر بعد إخراج القوات العراقية من الأراضي الإيرانية. لقد دامت الحرب ست سنوات أخرى داخل العراق نفسه وفي إيران بكوارثها وضحاياها من الجانبين. فهل نريد تحويل المحاكمة لجلسة سياسية لمجلس الأمن حيث درس الموضوع وأصدر القرارات العديدة عن تلك الحرب؟! كما أن القضية ليست نقاشا حول حرب إسقاط صدام بل حول جرائم قتل واغتصاب ودفن جماعي وغازات مستعملة، ولكل جريمة شهود وشهادات وصور وأفلام. يكفي عرض شاهد واحد أو شاهدة لجريمة من هذه الجرائم لتبخير كل مغالطة سياسية لأن المحاكمة جنائية.

وبالطبع لا يمكن عزل الجرائم المقترفة بحق الأفراد والجماعات عن النقاش السياسي عند الضرورة ولكن المحاكمة لا ينبغي السماح بتحويلها للجدل السياسي العقيم.

إنني أعتقد أن حاكم التحقيق الشاب والسلطة العرقية كان عليهم قبل كل شئ الإعلان أن الجلسة إجرائية بحتة وليست دخولا في صلب القضايا للمرافعة مع أو ضد. كان على حاكم التحقيق الشاب أن يحدد مسبقا نطاق المهمة وأن يكتفي بتوجيه السؤال بعد توجيه كل تهمة: "هل أنت فعلت ذلك أم لا ؟" ويحدد مجال كلام المتهم ب"لا "أو "نعم". فإذا أراد صدام أن يشرح ويدخل في تصريحات سياسية كما فعل، فقد كان على قاضي التحقيق إسكاته في الحال وبأدب، وأن يقول له:" اسمع، إن هذه جلسة إجرائية وليست جلسة الدخول في صلب القضية. وعندما تفتتح جلسات المحاكمة الفعلية فبمقدورك أن تقدم ما تريد من شروح وتبرير واتهام ، أنت و محاموك إن المرافعات هي هناك وليست هنا".

لقد استغل صدام أدب حاكم التحقيق وتساهله لإطلاق تصريحات سياسية لإبعاد التهم الرهيبة عنه. ولو كان حاكم التحقيق صارما لأجاب بأدب عندما تحدث الطاغية عن "ماجدات العراق": " وأنت يا صدام، ماذا فعلت وأولادك لصيانة شرف ماجدات العراق؟!" وثم إسكاته.

هذه ملاحظة لكي لا يكرر حاكم التحقيق في الجلسات القادمة نفس الموقف عن طيبة مفرطة وأدب جم. وكذلك، وخصوصا، حين تبدأ المحاكمات الفعلية فإن على القضاة الاتصاف بحصر المناقشة في صلب التهم وعدم المساح بتحويل المحاكمة لجلسات جدل سياسي غير مبرر.

ربما كان حاكم التحقيق قد أوصوه بتجنب الاستفزاز والصبر ولكنه مشى أكثر من اللازم.

ومهما يكن فإن هذه الهنات لا تنقض من حقيقة أن الجلسة كانت تاريخية على نطاق العراق والمنطقة كلها. إن محاكمة صدام هي في الوقت نفسه محاكمة لجميع سياسات القتل والفساد وسلب حقوق المواطن في المنطقة. ولهذا ترتعد غاضبة هائجة كافة التيارات المعادية الديمقراطية و وأنظمتها ومعها الشارع الجاهل والمصاب بطاعون الثقافة الغوغائية الدموية..