إن قال عثمان العمير إنّ الصحافة الإلكترونية تحتضر فلنصدقه، ولنمش خلفه كما مشينا أول مرة قبل 15 عامًا. فالمستقبل لصحافة المواطن، لصحافة التواصل الاجتماعي التي حررت الخبر من قبضة قيود كثيرة، لكنها أخرجته أيضًا عن السيطرة.

ربما يكون عثمان العمير محقًا إذ أعلن موت الصحافة الإلكترونية، لكن سيكون من المبكر بالطبع توقع نهاية “إيلاف” بهذه الخفة. إن “إيلاف” – صحيفة العمير الإلكترونية – تخالف الصحف الإلكترونية الأخرى في أنها الأقدر على أن تكون في الطليعة الاعلامية العربية، وفي صدارة المشهد لسببين: أولًا، هي، ببنائها السيكولوجي واستعدادها الجيني الموروث، الأكثر تجريبية وثوروية؛ وثانيًا، هي الأكثر التصاقًا بالتقانة الجديدة وأبعد من سار بين نظيراتها في طريق صحافة المستقبل.

يتقن القول والمشي

ربما يقول قائل إن لا فضل لموقع إلكتروني على آخر إلا بالسرعة والدقة. لكن، ثمة ما يتجاوز هذا التوصيف الباهت قليلًا. فـ “إيلاف” كانت أول من بحث عن مستقبل الصحافة، وما كان تعبير صحافة المستقبل قد نُحت بعد. وبالتالي ستكون بالضرورة أول من يعرف كيف يقبض على جوهر هذا المستقبل. كيف لا... ألم تكن هي من وجده عربياً؟

لكن، حتى لو نحينا نبوءة العمير جانبًا، وقلنا هذا رجل مغامر، ولا يعتد برأي مغامر لأنه يتبع القلب أينما كان؛ وحتى لو اعترفنا بأن العصر عصر الإلكترون؛ لا يحتاج أي ملاحظ غير عينه المجردة ليدرك أن هذه الصحافة الإلكترونية ستنضم عاجلًا أم آجلًا – والآجل ليس بعيدًا - إلى الراديو والتلفزيون والصحافة الورقية، وبالتالي لا يحتاج غير المنطق ليعترف بأن العمير مصيب.

فمن منا يا ترى لا يملك حسابًا في "فايسبوك" و"تويتر" و"إنستاغرام" وسنابشات" و"تيليغرام" ولينكد إن"، أو في أحدها في أقل تقدير؟ ومن منا بعدُ يتلكأ عن الاعتماد على ما ينتشر في هذه الأوساط التقنية الجماعية من أخبار في جمعه أخبار يومه؟ إنها الصحافة الجديدة يا عزيزي المشكك. صحافة الإعلام الاجتماعي لا الإلكتروني حتى. صحافة المواطن الذي صار صحفيًا ومصورًا ومعلقًا ومحللًا ورئيس تحرير في آن واحد. وللمشكك، هاك هذا الرقم: 30 بالمئة من الأميركيين يحصلون على الأخبار من فايسبوك وحده.

إنها الصحافة التي لا أعتقد أن أيًا حسِب لها حسابًا، أو توقع يومًا أن يرى هذا البحر من الصحافيين الجدد... اليوم، يرى العمير الطريق واضحًا، فلنمش خلفه هذه المرة أيضًا، كما مشينا خلفه في مثل هذا اليوم قبل 15 عامًا، حين قال "إيلاف" كلمةً في فضاء الاعلام العربي ومشى. ويبدو أنه يتقن القول كما يتقن المشي.

خارج الهيمنة… خارج السيطرة

في السابق، شكونا من هيمنة وكالات إعلام غربية على الخبر العالمي. كانت هذه الوكالات تفرض أجندتها على العالم كله من خلال طريقة نقل الأخبار. طوال العقود الماضية، تغير الوضع كثيرًا، فقامت وكالات أنباء محلية ورسمية وما شابه ذلك، وكسرت احتكار الخبر.

اليوم، تطور الأمر فتطورت شكوانا. مم نشكو نحن الصحافيين؟ نجلس الآن، واليد تسند الخد: انتفى دورنا نحن أرباب الصحافة التقليدية، الذين قدرنا بالشطارة والزئبقية أن نتحول صحافيين إلكترونيين، وأن نركب موجة الإبحار الرقمي، فنطوع لغتنا، وننسى كثيرًا مما علمتنا الجامعات، ومما قرأنا في الكتب والمقررات. نجلس الآن متحسرين مع غلبة صحافة التواصل الاجتماعي، لأننا نعود إلى نقطة الصفر، إلى خطواتنا الأولى.

الهيمنة على هذا العالم وأخباره اليوم في يد شركات تقنية عملاقة قليلة: "فايسبوك" و"تويتر" و"انستغرام"، بينما لن يكون مفاجئاً أن تودعنا "رويترز" و"أ ف ب" و"أسوشيتد برس" وغيرها. ربما يكون هذا جيدًا، إذ خرج الخبر حتى من هيمنة الوكالات التي تمتعت طوال عقود بالسيطرة وبالهمينة. كما توافر للصحافي شهود عيان ينقلون مادة ما كان ليحصل عليها لو لم يقم شاهد عيان بالعثور عليها وإضافتها إلى صفحته في إحدى منصات العالم الافتراضي. وصارت صحافة التواصل الاجتماعي بعدًا رابعًا للصحافي الذي يعرف كيف يستفيد منه ليغني مادته وعالمه. لكن، في المسألة ما هو سيئ في الوقت نفسه: خرج الخبر عن السيطرة تمامًا.

الدولة الجديدة

أي مسار؟ إن صحافة التواصل الاجتماعي صارت بمنزلة عالم مواز للعالم الحقيقي، لولا بعض الشوائب الناجمة عن بشرية هذا العمل – لنقل قلة الخبرة - وهذا يغني عمل الصحافي الذي يعرف كيف يستفيد منه.

فكما وسائل الإعلام الحريصة على نقل الخبر بدقة وبأسبقية ملزمة تعيين مراسلين في عواصم الخبر وعواصم القرار، صارت ملزمة كذلك تعيين مراسلين في ما يمكن أن نسميه عواصم قرار الصحافة الاجتماعية.

لـ “إيلاف” مراسلوها في باريس ولندن ودبي والرياض ونيويورك والرباط وبيروت. لكن ذلك لم يعد كافيًا. نتطلع مستقبلًا إلى افتتاح مكاتب تمثيلية في دول جديدة تنشأ، مثل دولة فايسبوك. مكتب يعج بالمراسلين، ينقلون إلينا ما يحدث في أروقة هذه الدولة وأزقتها، ويصورون ما يخطّ على حيطانها وما يعلق على هذه الحيطان من صور... ولدينا الخطط نفسها بالنسبة إلى تويتر وإنستغرام وبينترست.

ليس الأمر مزاحًا. إن عدد سكان دولة فايسبوك يفوق عدد سكان الصين، يعيشون في سلام حينًا وفي تناحر أحيانًا (إن تمكنوا من التفاهم بلغاتهم الكثيرة المختلفة)، وفي دولتهم تخاض التجارب بحرية، وتطلق الشعارات، وتُجمع الآراء، وتُنظم التظاهرات، وتُقاد الانتفاضات، وتُخاض الحروب، وتنقل أخبار كل هذا في ثانية حصولها.&

نحن جاهزون… أنتم؟
&