قال الرئيس العراقي برهم صالح لناشر "إيلاف" ورئيس تحريرها عثمان العمير إن العراق متمسك بعلاقاته الوثيقة بجيرانه الخليجيين، ويسعى ليكون عنصر تفاهم في المنطقة، رافضًا أي حرب جديدة، وداعيًا إلى حل المشكلة مع إيران بالتفاوض.

إيلاف من لندن: الصدفة... الصدفة وحدها كانت وراء زيارتي للسيد برهم صالح، رئيس الجمهورية العراقية، في مقر إقامته في فندق دروشستر الشهير. كان في ساعات زيارته الأخيرة للندن، وهي الزيارة التي اتسمت بكونها سابقة تاريخية؛ إذ كان له حظ أن يكون أول رئيس للجمهورية العراقية يلتقي ملكة بريطانيا منذ الانقلاب الدموي الذي طرد الحياة البرلمانية، وأطاح الملكية في مذبحة يندى لها جبين التاريخ. فالملكة التي عاصرت في عهدها 13 رئيس وزراء في بلادها، والرابع عشر في الطريق، مرّ على العراق في أيامها عشرة ‏رؤساء منذ عام 1958، لم تستقبل منهم إلا آخرهم، وهو الرئيس الحالي، وهي مقاربة تعطي فارقًا بين الحال في بريطانيا والعراق.

&

لقراءة الحوار باللغة الانكليزية

:Elaph - Exclusive
Iraqi President Barham Saleh: We can’t afford a new war and issues must be solved through communication

&

اللقاء الخاص

خفّ ابن القاضي أحمد صالح، المولود في السليمانية قبل 56 عامًا، إلى قصر باكنغهام، وذكرياته تسابقه، منذ أتى إلى بريطانيا، وتلقى فيها علومه الثانوية، ثم تعلم في ويلز، ومنها إلى ليفربول، إلى أن حصل هذا اللقاء المهم مع الملكة إليزابيث، عميدة ملوك العالم.

كان يتوقع لقاءً بروتوكوليًا، "غير أنها بهرتني بحضورها واطلاعها على الشأن العراقي، وتذكرها تفاصيل لقائها مع الملك فيصل الثاني، آخر ملوك العراق"، وفق ما قاله الرئيس العراقي برهم صالح، الذي أكد أن لبريطانيا دورا مهما في المنطقة، "وبالذات في خضم هذه التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، وهذه الصراعات الحاصلة. فالتشاور والتعاون مع الجانب البريطاني مهمان، وكانت اللقاءات مهمة".

لم يكن لقاءً بروتوكوليًا، بل كان مختلفًا، "ففي الحقيقة، كانت هناك لقاءات أخرى مع الرئيس جلال طالباني، لكنه لم يحصل في قصر باكنغهام. هذا حدث آخر الآن، يعرف بـ«private audience»، وهو لقاء رسمي في قصر باكنغهام، وأنا أول رئيس عراقي يعطى هذه الفرصة التي كانت لها دلالاتها التاريخية. وجرى الحديث عن موضوع العراق، والملكة على ما يبدو متابعة للشؤون في المنطقة. لا أريد أن أخوض في تفاصيل ما تحدثنا فيه، لأنه لن يكون لائقًا، لكن انبهرت بمتابعتها للأمور، وكان هناك حديث شيق، جزء منه في التاريخ وجزء منه في حوادث اليوم أيضًا".

&

&

علاقاتنا مهمة

على الرغم من أن بريطانيا مشغولة باختيار رئيس وزراء جديد، إلى درجة الشعور بالشلل، حين يكون الأمر خارج مأزق الانفصال البريطاني عن أوروبا، إلا أن الزعيم العراقي تمكن من أن يلتقي زعماء الشهر المقبل، وفي مقدمهم بوريس جونسون وجيرمي هانت والعديد من كبار المسؤولين، كما سنحت له فرصة اللقاء برئيسة الوزراء تيريزا ماي، وبالقيادات الأساسية في حزب المحافظين والوزراء في الوزارة الحالية، وهم مهتمون بالتطورات في العراق، وتصوره أن ثمة آفاقًا جيدة لتعزيز العلاقات الثنائية بين العراق وبريطانيا. فربما تكون بريطانيا في مرحلة انتقالية، لكن، "في مقتضى الحال، بريطانيا دولة مؤسسات والأمور تسير وفق سياقها الطبيعي"، بحسب صالح، "وهي قوة دولية مهمة ولها علاقات تاريخية مع العراق، يعني تلازم الوضع العراقي - الدولة العراقية - مع بريطانيا منذ تأسيس الدولة العراقية إلى اليوم أمرا مهما. وهي قوة دولية لها تأثيرها في الشرق الأوسط، ولها اهتماماتها، والآن دورها الاقتصادي يتنامى - أعني الاهتمام بالملف الاقتصادي - فبريطانيا كانت مساندة لنا في الحرب ضد الإرهاب، وشاركت في التحالف الدولي، وهذا جهد مشكور ومقدر من قبلنا".

ربما لا يريد الرئيس العراقي أن يتدخل في الشأن البريطاني وأزمة بركسيت، لكن يقينه هو أنه لو ستخرج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، "فإن علاقات بريطانيا مع الفرنسيين والألمان كقوى ثلاثية كبرى في المجموعة الأوروبية تبقى مهمة، ولدينا حوارات مستمرة معهم في بغداد بشأن مستجدات المنطقة والأوضاع الاقليمية. ولعلاقات بريطانيا مع الأميركيين تأثيرها أيضًا. ومن منظورنا كدولة عراقية، من مصلحتنا أن نتعاطى مع ذلك وأن نعزز تلك العلاقات. وهناك بعد إنساني مهم. فقد عاش عدد كبير من العراقيين في بريطانيا وكانوا لاجئين فيها، وأنا أحدهم. عشنا هنا وتعلمنا في مدارس وجامعات بريطانيا. عدد كبير من أفراد الجالية العراقية موجود هنا، وهذا يمثل جزءًا من الأواصر الإنسانية بين البلدين".

&ذكريات بريطانية

عندما استقبلني عاشر رئيس جمهورية للعراق في جناحه الصغير، مقارنة بأجنحة أخرى، تخيلت أن أرواح الذين زرتهم أو اجتمعت معهم تدور في أروقة هذا الفندق العريق... آه لو نطقت الجدران والشراشف والنوافذ والأقداح...! لكنها لا تنطق ما لم يجدّ جديدٌ في اكتشافات العلم.

&

&

كانت أحاديث تحاصر بمفاجآتها مداركنا. كان استقباله ينم عن شخصية دافئة، بينما يختفي ذكاؤه خلف نظارتيه، وتلفت بكياسة ولطف غير معهودين. دارت صورة صدام حسن حين لقيني في البصرة في أوائل عام 1990؛ التباين شاسع ويعطي فكرة عن المسافة التي اجتازها العراق.

كان يخاطبني طوال الحديث "كاكا عثمان"، فأرد عليه "فخامة الرئيس" أو "سيدي الرئيس".

تحدث بحنان ندي، فشاركته ذلك الحنان عن لندن، وعما قدمت له بريطانيا من تعليم واستقرار، فآمنت بقوله... كيف لا؟ وهو كان تخلى عن جنسيته البريطانية بموجب الدستور العراقي، الذي يمنع إزدواج الجنسيتين، وما زال العراقيون يحتفظون بعلاقة خاصة مع الدولة التي ساهمت بشكل قوي في تأسيس الدولة العراقية التي قوض أركانها القوميون والطائفيون.

نعم، تحدث بحنان ندي، فلما أتى لندن درس المستوى الأول في شمالها، "ثم ذهبت إلى وايلز، ثم الى كارديف، حيث درست الهندسة ثلاث سنوات في جامعة كارديف. كان ابن عمي أيضًا معي هناك. ثم ذهبت إلى ليفربول. زوجتي درست في جامعة باث. ثم رجعت إلى لندن، حيث عملت مهندسًا استشاريًا فترة من الزمن، إلى جانب عملي السياسي الذي كنت أؤديه آنذاك نيابة عن الحركة الكردية وحركة المعارضة العراقية.

لندن لدى العراقيين هي أم الدنيا. يقول صالح:&"ينشط العراقيون في كل مجال كما تبدو&قدرة اليهود من أصل عراقي مثلهم مثل المسلمين والمسيحيين&في التموضع معها والنجاح فيها". يتابع وهو يتأمل سقف الغرفة: «لا شك في أنني في بريطانيا، كوننا كنا في طور الشباب ودرسنا في جامعاتها، تكونت لديّ علاقات واسعة مع الكرد المقيمين هنا ومع الجالية العراقية. وكما يقولون، كانت سنوات مهمة في عمرنا، وكنت هنا متصدرًا العمل السياسي، متحدثًا باسم المعارضة والحركة الكردية - الاتحاد الوطني الكردستاني آنذاك، فتكونت لديّ علاقات واسعة". قبل أيام، كان صالح في ضيافة مجلس العموم البريطاني، فالتقى هناك مجموعة من أعضاء البرلمان كانوا يعملون معًا في أيام المعارضة ضد صدام حسين، في التظاهرات والاعتصامات في لندن آنذاك، "وكان قسم منهم شبابًا معنا في الجامعة، وانتهوا أعضاء منتخبين في مجلس النواب. حتمًا، هذا التأثير ليس بقليل، وهناك ذكريات جميلة من تلك الأيام".

مشكلات كردستان

من أين يبدأ الحديث مع رئيس العراق إن لم يبدأ بالعراق؟ إلى الآن، ما خرجت كردستان من العراق، لكن الوضع فيها يتطور. يعترف فخامة الرئيس صالح بهذا التطور، وبأن ثمة تجربة مهمة في كردستان، من حيث الإعمار والتطور والاستثمار، "فكردستان كانت مدمرة بالكامل، دمرها النظام السابق، دمر أكثر من 4500 قرية. الكثير من المدن دمرت. إذا أتيت إلى أربيل والسليمانية ودهوك اليوم، ترى حركة بناء وعمران وتقدم، لكن في كردستان أيضًا مشكلات سياسية، الناس يتطلعون إلى حكم رشيد وإلى عدالة اجتماعية، وهذا حال كثير من مناطق بلادنا ودول منطقتنا. يجب ألا نستخف بحجم التقدم الذي حصل، لكن في الوقت نفسه، يستحق شعوبنا ومواطنونا أفضل كثيرًا مما هم فيه اليوم. وكلامي هذا ينطبق على كردستان، كما ينطبق على باقي أنحاء العراق".

يمعن فخامة الرئيس النظر فيَّ وأنا أستشف منه مدى رضاه عن الأداء السياسي في كردستان، ويبتسم قائلًا إنه لا يستطيع أن يقول إنه راضٍ، وبحسبه: "حتى لو تسأل القيادات السياسية الكردية المعنية مباشرة بالأمر، فسيقرون بوجود خلل في الأوضاع السياسية، لكن مكامن الخلل الموجودة بحاجة إلى متابعة وعلاج، وبحاجة إلى تعزيز التجربة الديمقراطية هناك، ومعالجة الفساد والمحسوبيات، وغير ذلك من المشكلات التي تعانيها منظومة الحكم في كردستان، كما في معظم بلدان الشرق الأوسط".

لكن، يقينه أن يجب "ألا نستخف بحجم التقدم الذي حصل في كردستان، وألا نتجاهل توقعات الناس وتطلعاتهم إلى حكم رشيد.. عادل.. شفاف في التعاطي مع مشكلاتهم".

علاقاتنا وطيدة

ألتقي الرئيس العراقي اليوم في وقت تتأرجح فيه المنطقة برمتها على حبلين: حبل تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي مع الترويج لما أطلقت عليه الولايات المتحدة اسم "صفقة القرن"، وحبل الحرب التي تُدقّ طبولها في خليج العرب.

على الحبل الأول، كان العراق ميدان رفض شعبي لمؤتمر المنامة الأخير، وصل إلى حد الاعتداء على سفارة مملكة البحرين لدى العراق. هذه المسألة تسبب الوجوم للسيد الرئيس، ويقول إنه تلقى مكالمة من جلالة ملك البحرين، قبل نصف ساعة من لقائي، "وكان لطفًا منه أن يبدأ كلامه بالتعبير عن تقديره لجهود الحكومة العراقية في أعقاب الاعتداء على سفارة البحرين، وأكد أن هؤلاء المتصيدين في الماء العكر لن يستطيعوا النيل من علاقتنا ومن حرصنا على العلاقات الثنائية. هذا موقف محترم وأقدره تقديرًا عاليًا، ومن جانبي تحدثت بالتفصيل عما قامت به أجهزة الحكومة العراقية واعتقالها 54 متورطًا في الحادث، وهم قيد التحقيق، كما هناك لجنة لعقاب المقصرين في إجراءات الحماية في محيط السفارة البحرينية".

أضاف الرئيس العراقي: "أريد أن أقول إن الرسالة واضحة للكل. مثل هذه الإجراءات هدفها عرقلة تعزيز علاقتنا بأشقائنا في الخليج، وتواصلنا مع عمقنا العربي". وبلهجة مصرّة، قال: "لن يستطيعوا أن ينالوا من تلك العلاقات، فهذه العلاقات مهمة للعراق، ومهمة لاستقرار العراق، ومهمة لمصالح المنطقة، ونحن ماضون فيها. موقف الحكومة العراقية وموقف الأخ رئيس الوزراء ووزارة الخارجية ووزارة الداخلية مهم. هذا هو الجواب العراقي الحقيقي والنابع من مصلحة العراق، وعدم القبول بالتعرض لعلاقاتنا بأشقائنا".

لا نريد حربًا

على الحبل الثاني، حبل التوتر الإيراني – الأميركي المتصاعد في الخليج، يتمنى الرئيس العراقي ألا تندلع الحرب. قالها في شاتام هاوس وفي الكثير من المقابلات، وفي مقابلاته الثنائية مع الجانب البريطاني، "هذه المنطقة عانت ما عانته من الحروب. ونحن لا نريد حربًا جديدة. لم ننتهِ بعد من الحرب الأخيرة ضد داعش. يعني، هذه المنطقة ليست بحاجة إلى حرب جديدة. آخر ما نكون بحاجة إليه هو حرب جديدة. في النهاية هناك مشكلة في المنطقة وهذه المشكلة يجب أن تحل بالحوار، والتفاوض. إيران دولة مهمة في المنطقة، لا يمكن تجاهل أهميتها ولا دورها. العراق في قلب هذه المنطقة، وتمتد حدوده مع إيران 1400 كلم. الوشائج والأواصر التي تربطنا بالشعب الإيراني وثيقة، ولا نريدها أن تعصف بالاستقرار في العراق، ولا في المنطقة".

يؤكد الرئيس العراقي أن علاقات بلاده بعمقها العربي وثيقة، "وهذه العلاقات بأشقائنا وأخواننا في الخليج تملي علينا أن نحرص أكثر على نشر الاستقرار الاقليمي، وعلى عدم إتاحة الفرصة لزعزعة الأمن. لكن، يجب أن نقر بوجود مشكلة حقيقية، وهذه المشكلة ليست وليدة اليوم، إنما متراكمة منذ أعوام، بل عقود. فالمنطقة بحاجة إلى منظومة إقليمية جديدة، إلى منظومة أمن، إلى منظومة تعاون اقتصادي، إلى منظومة احترام لحقوق المواطنين ولسيادة الدول، ضمنها مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. لقد تصدعت هذه المنظومة في الشرق الأوسط، وأحد الأسباب السياسية لتصدع المنظومة الإقليمية هو غياب العراق أو تغييبه في خلال العقود الأربعة الماضية".

ينظر سيدي الرئيس إليّ، فأرى في عينيه بريق الإصرار. يقول: "آن الأوان للعراق أن يعود محورًا أساسيًا في المنطقة. تشترك دول جوار العراق، بما فيها تركيا وإيران والعمق العربي، في مصلحتين أساسيتين: أولًا، ألا يعود العراق إلى ماضي الاحتراب والفوضى، فقد اثبتت الحوادث أن هذا الماضي لم يمثّل مشكلة للعراقيين وحدهم، بل لسكان المنطقة كلهم؛ وثانيًا، حقيقة التصدي للتطرف والإرهاب، اللذين يتطلبان سياسة حكيمة لاجتثاثهما. فنهاية داعش العسكرية لا تكفي. أمامنا جهد طويل للتعاطي مع مخلفات داعش، ومع بؤر التطرف الموجودة في سوريا وغيرها. ولا يمكن التعاطي مع هذا باجتزاء وانتقائية، أقولها بكل صراحة، مع كل هذه التحديات، أن نغرق في حرب جديدة معناه أن يعود داعش ومعه التطرف والفوضى... ويقينًا، هذا ليس في مصلحة أي من دول المنطقة، ولا في مصلحة الخليج، ولا في مصلحة إيران، ولا في مصلحة العراق، ولا في مصلحة أوروبا، ولا في مصلحة أميركا".

لنتعلم من أوروبا

تبذل النخب العراقية اليوم، بمكوناتها الكردية والسنية والشيعية وحتى المسيحية، جهدها لمواجهة التطرف. فهذا التطرف ليس مرهونًا بطائفة بعينها، بل هو، كما يقول الرئيس العراقي، "آفة خطرة، أصابت المجتمعات الإسلامية والعربية، ويجب ألا نستخف بها، فلها أسبابها الموضوعية، جزء منها ثقافي، وجزء يتمثل في خلل يكمن في عدم تمكن المؤسسات الدينية من التصدي للمتطرفين الذين اختطفوا ديننا الحنيف، أو حاولوا اختطافه وحرفه عن مساره الصحيح. لكن، أيضًا، هناك في الحقيقة مشكلات اجتماعية واقتصادية خطرة في المنطقة. أنا اتكلم الآن عن العراق. فعدد سكانه 38 مليون نسمة، ونحن بحاجة إلى 12 ألف مدرسة جديدة، وبناية جديدة. عدد سكان العراق يزداد مليونًا في كل عام، و70 في المئة من الشعب العراقي دون سن الثلاثين. فرص العمل قليلة، وهناك بطالة حقيقة، ولا يمكن خلق فرص عمل حقيقية للشباب العاطل من خلال الواردات النفطية وحدها. العراق بحاجة إلى تنشيط اقتصاده وخلق فرص عمل".

يعتدل فخامة الرئيس في جلوسه، ويتابع: "اقول لك بكل صراحة، غياب العدالة والفساد والبطالة جزء أساسي من المنظومة التي تؤدي إلى ظهور التطرف وإيجاد مراتع خصبة للمتطرفين للعب بمستقبل بلادنا. لذلك، اقول حقيقة وقد يكون هذا كلامًا عامًا، لكن برأي هو في صميم الوضع... لنتعلم من تجارب العالم. فأوروبا مرت بظروف أسوأ كثيرًا من ظروف الشرق الأوسط. في القرن العشرين، مرت بحربين عالميتين. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اندلعت حروب قومية وطائفية ودينية وغير ذلك. لكن أوروبا تجاوزت مشكلاتها بإحداث شبكة مصالح اقتصادية تربط بين شعوبها وتربط بين دولها، وأنشأت منظومة مصالح متبادلة منعت المتطرفين من اللعب بمقدرات البلاد. أما نحن، ففي أوج صراعاتنا، لم نشهد حروبًا عالمية، لكن مع ما أنعمه الله علينا من موارد طبيعية وكفاءة بشرية وخيرات كثيرة، هذه المنطقة بحاجة إلى تجاوز الماضي والتركيز على ما هو مطلوب: استحداث فرص عمل للشباب، وتعزيز التعليم وتطويره، واحترام كرامة الانسان في بلادنا، وإذا لم نفعل ذلك تبقى منطقتنا مرهونة بسلسلة من العناوين المسيئة: تطرف. إرهاب. فوضى. حرب... وهذا يكفي".

محور لتفاهم إقليمي

يعتدل ثانية في جلسته، من دون أن يشيح بنظره عني، كأنه يريدني أن أتشرّب كل كلمة يقولها. قال لي: "أتكلم بصفتي رئيسًا للعراق، أعبر في الوقت نفسه عن حالة إنسانية وجدانية. في خلال أربعين عامًا، لم ينعم العراقيون بالاستقرار، لا في أموالهم ولا في أرواحهم. جرت كل حروب المنطقة وصراعاتها على أرضنا، وعلى حسابنا. كفى! لا نريد التورط في حرب أخرى، ولا نريد أن تتورط المنطقة في حرب أخرى".

ينظر في عيني كأنه وصل إلى الكلام الجوهري. يقول: "العراق بموقعه الجغرافي وعلاقاته بجواره الاسلامي في تركيا وإيران، وبعمقيه العربي والخليجي، يستطيع أن يكون محورًا لتفاهم إقليمي، يبدأ من المصلحة المشتركة في تعزيز استقرار العراق، والانطلاق إلى منظومة تعمل على استئصال الفكر المتطرف والمنحرف، وخلق فرص عمل لشبابنا وتطوير اقتصادياتنا من خلال مدّ شبكة مصالح اقتصادية تربط بين شعوب هذه المنطقة ودولها".

يبتسم وكأنه وصل إلى زبدة الكلام: "هذا تطلع مشروع، وبرأيي ربما يكون صعب المنال، لكنه وارد التحقيق".

القبور تحكمنا

لم يكن هدف زيارتي للرئيس برهم صالح في خلال وجوده في لندن الخروج بحديث صحافي. فقد تواعدنا على حديث معمق. كان هدفي رؤية العراق الجديد المتغير المتبدل وتلمسه، العراق الذي يحلم محبوه بأن يكون ألمانيا المنطقة التي خرجت من تراجيدياتها بمفهوم حيّ لدولة ناجحة. تسنى لي أن أتابع المسألة العراقية عن كثب، وتعرفت على كثير من زعمائه... ولكن، لقاؤنا في لندن كان طريًا بالمواضيع التي نتماهى معها أكثر... لندن الصحافة، لندن الثقافة، لندن القراءة.

كان أول سؤال سألني اياه: "كيف إيلاف؟" قلت له: "مشغول بنهج جديد، خطوة جديدة لها".

ربما تكون إستثناءً يا فخامة الرئيس.

التقط الحديث، وقال: "هناك تجارب جديدة في الغرب تتطلع إلى الهرب من النمط التقليدي وقت نجحت ثم استفاض في الحديث عن تلك التجارب"، فكان حديثنا الشيق المعمق.

إذًا، الرئيس المثقل بهموم المنصب وتكاليف السياسة... هل يقرأ؟ نعم يقرأ: "أقرأ إيلاف، أحاول أن أقرأ التاريخ. الآن، أنا في طور اعادة قراءة المرحلة الاجتماعية من تاريخ العراق. مع الأسف الشديد، في منطقتنا التاريخ يحكم. قالها توماس فريدمان: الفرق بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط هو أنهم تحرروا من التاريخ، ونحن مازال التاريخ يتحكم بنا".

صدقت يا سيدي الرئيس... القبور تحكمنا!