"السقوط الذي يمسُّكم لاسعاً يمسُّ الرماد في مواقدكم أيضاً، ويمسُّ الزيتَ في المعاصر" 

سليم بركات

مِن المتعارف عليه أن كل مَن يود شرعنة غزوه لمنطقة ما أو ملةٍ من الملل أو طائفة من الطوائف، أن يجد ذريعةً أو حجة تُقنع أنصاره وحلفاؤه معاً بما ينوي القيام به حتى يقوم بعمله ذاك، وهو بالضبطما عملت عليه وهيأت له أنقرة طوال سنوات الصراع في سوريا، وذلك عبر شيطنة حزب الاتحاد الديمقراطي ومن ثم وحدات الحماية الشعبية التابعة له في إعلامها المرئي والمقروء والمسموع، وأخيراًأقدمت أنقرة على ما كانت تنوي القيام به منذ زمن طويل، وسط ترحيب معظم المعارضين السوريين، علماً أن هؤلاء أنفسهم كانوا قد رفضوا رفضاً قاطعاً أي تدخل أجنبي في سوريا لإنقاذ الشعب السوري من عسف النظام وبراثنه منذ بدء الثورة السورية!!

إذ بعد أن أخذت أنقرة الموافقة من الحليفين، أولهم الأمريكي ضمناً عبر تغاضيه عما سيجري في منطقة عفرين باعتبارها خارج مناطق نفوذه في سوريا، كما فعلت بالضبط في كركوك منذ فترة ليست ببعيدة، وكذلك موافقة الروس صراحةً بناءً على ما نشرته صحيفة يني شفق القريبة من الحكومة التركية، حيث شن الجيش التركي غاراته الجوية وبدأت حملته الأرضية على عفرين بذريعة محاربة وحدات الحماية الشعبية التي تراها تركيا جزءًا من حزب العمال الكردستاني، علماً أنه في مفاوضات آذار عام 2013 بين مسؤولين في الاستخبارات التركية وحزب العمال الكردستاني ومن ضمنهم عبدالله أوجلان في سجنه بجزيرة أميرالي، أعلن وقتها رسمياً وقف إطلاق النار مع تركيا، وذلك في أعقاب الدعوة التي وجهها أوجلان لإنهاء النزاع المسلح، وتضمن الاتفاق حينذاكإنسحاب عناصر العمال الكردستاني إلى خارج حدود تركيا؛ أي بمعنى أنه ما من مبرر مقنع للحملة الحالية على عفرين لمحاربة حزب العمال الكردستاني، طالما أن ذلك الحزب هو عملياً خارج حدود تركيا حسب الاتفاق المبرم بينهم، هذا في حال إذا كانوا موجودين حقاً في عفرين، وإذا لم تكن لأنقرة مآرب أخرى غير محاربة وحدات الحماية الشعبية القرية أيديولوجياً من حزب العمال الكردستاني.

وبخصوص المعارك الدائرة في عفرين فلا شك أن تركيا لن تدفع بجنودها ليكونوا قرايين عمليتها في عفرين، إنما أتت ببعض المقاتلين السوريين الذين سلّموا مناطقهم لنظام الأسد وانسحبوا مخذولين إلى إدلب بناءً على الوساطة التركية، وكنظرة عامة يبدوأن جموع المقاتلين بعد أن تحولوا إلى أدوات حرب لم يعد لديهم فرق بين الذي يقاتلون معه أو ضده، طالما أنهم فقدوا عذريتهم الثورية وسلّموا مواقعهم للنظام الذي قالوا في الماضي بأنهم ثاروا عليه، وغدا حال الكثير منهم كحال البنت التي تخوض تجربة بيع الجسد مرتين أو ثلاث ومن ثم ترى بأنها طالما لم تعد طاهرة بنظر المجتمع الذكوري فعليها إذن أن تتأقلم مع واقعها الجديد وتستثمر تضاريسها بدلاً من هتكه بالمجان، وهذا هو حال الكثير من المقاتلين السوريين الذين غدا القتال بالنسبة إليهم عبارة عن شغل، ولا يهم في جبهة مَن يشتغلون، ولا يهم إن كان الذي يقاتلونه عدواً أم صديقاً، قريباً أم غريباً، سورياً أم أجنبياً.

وعن المناخ العام في عفرين فحسب استطلاعٍ ميداني بسيط لرأي الشارع العفريني، قام به نشطاء حياديون، جاءت إجابات معظم من شملهم الاستطلاع، بأن مَن سلّم مناطقه للنظام كان عليه أن يشعر بالعار مدى الحياة، لا أن يحاول استرجاع كرامته على حساب قتل الأبرياء في عفرين، مخاطبين المقاتلين االذين سلّموا مناطقهم للنظام بأن كرامتكم المهدورة لن تُسترجع في عفرين، إنما عليكم بالتوجه إلى مناطقكم حتى تستعيدوا ما سلبه منكم أسد البعث بالتواطؤ مع الدول الضامنة لبقاء الأسد.

وبالنسبة للثوار السوريين الذين تحول بعضهم مع الزمن إلى قَتَلةتحت الطلب، فإن ما صاروا عليه يذكّرنا بحالة عراقيٍّ كان سائق تركس أثناء عمليات الأنفال، إذ كان السائق يقوم بطمر المؤنفلين الكرد بعد أن يحفر في التربة عميقاً ثم يأتي جيش صدام حسين بالكرد ويعدمهم عند الغروبِ على حافة حفرةٍ من الحفر، وبعد تصفيتهم جميعاً كان على السائق أن يقوم بطمر الحُفرة وإخفاء أثرها، وفي إحدى المرات سأله أحدهم ألم تندم على ما كنت تقوم به؟أجابه الرجل بأنه كان يعتبره عمل وباب رزق! وللأسف يظهر بأن إطالة الأحداث في سوريا وإنحراف مسار الثورة جعل الكثير من السوريين مثل ذلك السائق، فالقتل والقتال صار بالنسبة إليهم شغلوباب رزق، فمن موّلهم يقاتلون تحت امرته إلى حين، بما أن القتال يتم كرمى الغنائم والعوائد المالية التي حلّت مكان القيم الثورية؛ ولكن حسب العارفين بطبيعة أهل عفرين يظهر بأن تجارتهم هذه من الصعب جداً أن تكون مربحة حسب ما يتصورون، وذلك حتى ولو انسحب أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي من المنطقة، وهنا لا نقول ذلك تعويلاً على طبيعة عفرين الجبلية ووعورتها، وليس لأن عفرين تمتلك الأسلحة القوية، ولا لأن الدول ستساندها ـ بل العكس تماماً فقد تبرأ منها الروس والأمريكان معاً، وتخلت عنها الدول علناًلصالح الحليف الأكبر في المنطقة ـ وليس لأن شعب المنطقة مؤمن بوحدات الحماية الشعبية، إنما بكل بساطة لأن أهالي عفرين يرفضون مسبقاً ثقافة ذلك المعبأ بغبار الجاهليه، ويرفضون سلفاً مَن يجرجرون معهم فكراً ارتكاسياً لا ينسجم حتى مع عقلية الرعاع في المنطقة، ومن المتوقع جداً أن مواطنو المنطقة قد يقبلون بتدمير منطقتهم كلها، ولن يُرحبوا بأهل اللِحى والجلابيب القصار كما حصل في كل المناطق السورية الأخرى، ونادراً ما قد يجدون مَن يحتفي برفع الرايات السود على بيوتهم، هذا علماً أن أغلب سكان عفرين ليسوا راضين عن ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي واسلوبه المتعنت والمستفرد في إدارة الكانتون، بل وأغلب السكان ضاقوا ذرعاً بضرائبه وبتجنيده الإجباري، ولكنالوقائع تشير بأنه مهما كان أهل المنطقة على خلافٍ حاد مع الفلسفة الأوجلانية الشمولية، إلا أنهم نكايةً بها من المستبعد جداً أن يُرحبوا بالراديكاليين الاسلاميين، لسببٍ بسيط جداً وهو أن عفرين هي المنطقه الكردية الوحيدة التي تحررت بشكلٍ كبير من سطوة رجال الدين ومرعبات ومغريات الآخرة، ولا ينشغل حتى أغلبالمصلين فيها بأرتال الحواري ووصيفاتهن، لذلك يُتوقع بأنهمسيقفون بوجه الغازي تعبيراً عن ثقافتهم، وسيتصرفون وفق سجيتهم، لا حباً بوحدات الحماية الشعبية، ولا حباً بحزب صالح مسلم.

وحسب وجهة نظر بعض المراقبين أن الذي أرسل أرتال المقاتلين إلى عفرين يبدو أنه قد ضاق ذرعاً بهم في إدلب، وغدوا يشكلون عبئاً فعلياً عليه وعلى حلفائه في فريق خفض التصعيد في سوريا، لذا حسب توقعاتهم أن معركة عفرين ستكون بالنسبة للمقامر بالمقاتلينطريقة سهلة وسريعة للتخلص من أكبر عدد منهم، بما أنه بالنسبة لمن يستثمر المقاتلين ويراهن عليهم فلا إشكال لديه إن قُتل كل من تم إرسالهم، أو تم تصفية كل عناصر وحدات الحماية الشعبية، باعتبار أن الطرفين خُلقوا ودُعموا وتم تغذيتهم اقليمياً ودولياً ليتم التضحية بهم لاحقاً في التربة التي ستُبى عليها مصالح الدول الممسكة بالملف السوري.

أما عما لا يعرفه الملتحون عن عفرين فسأضرب مثالين بسيطينجداً ولكنهما يعبران عن كنه وجوهر المواطن العفريني، والمثالين لن آتي بهم من العلمانيين ولا من اللادينيين ولا من الملحدين، إنما من إمامين من أئمة جوامع المنطقة، وذلك حتى يكون القارئ البعيد على بيّنة من طبيعة سكان المنطقة التي تجاوزت العقل الديني والعقل العشائري منذ أكثر من 50 سنة، وأحد الأمثلة هو عن إمامٍ في المنطقة وقد أشار إليه يوماً مواطن عربي من ريف حلب بأنه لا يليق بإمام جامع أن تخرج زوجته مكشوفة الوجه إلى الشارع، فرد عليه الإمام بكل بساطة: وهل زوجتي أنبل من كل نساء الناحية حتى تشذ عنهن؟ وهل خمار الوجه سيجعل من زوجتي غير التي هي عليها الآن؟ وأردف الإمام وهل تراني نبياً حتى أخص امرأتيبأردية خاصة غير أردية عامة النسوة؟ حينئذٍ كف الرجل عما كان يريده، بينما أبقى الإمام زوجته ككل نساء المنطقة، فلم يغطيها بجادر، أو يطوّقها بخيمة، أو يسبل عليها الظلام في وضح النهار؛أما المثال الثاني وهو عن إمامٍ تركماني الأصل كان قد تم تعيينه إماماً في قرية تدعى كوران، وكان هذا الإمام يتحدث علانية عن التعذيب في الإسلام والجرائم التي ارتكبها بعض قادة المسلمين،مستشهداً في خيم العزاء على الدوام بكتب فرج فودة وهادي العلوي وخاصةً كتاب الأخير التعذيب في الإسلام، مجاهراً بمواقفه المخالفة لمواقف الأئمة والمشايخ، وكان يذكر في كل مجلس بأن توماس أديسون أولى بالرحمة من عشرات القادة المسلمين بكونه أنار البشرية جمعاء ولم ينشر الظلام على غرار الكثير من شيوخ الإعتام، وفي إحدى الجلسات سأله أحدهم، يا شيخ وليد هل بمقدورك أن تطرح نفس هذه الأفكار والمواضيع في مدينة حلب أو بين بني جلدتك التركمان؟ فكان جوابه وهل تريد قتلي؟ ولعلّ لسان حال أغلب سكان المنطقة ومن ضمنهم المعارضين كلياً لسياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يقول: هذه هي عفرين البعيدة عن هوىالثيوقراطية يا طلاب الجنة في المكان الخطأ.